أحلى من العنب والتين … قصة قصيرة
بقلم عادل رفاعي
لا أدرى كيف استيقظت وفى أذنى يتردد نداء لم أسمعه من سنين :
” ياأحلى من العنب والتين يا حيّانى ”
تساءلت ما الذى بعث هذا النداء القديم من مرقده فى ذاكرتى ؟ أهو جو الخريف ؟ موسم البلح والجوافة والعنب الفيومى ، أم أن أحداً قد فتح باب الثلاجة فتسربت رائحة الجوافة إلى أنفى ، أغمضت عينى فتمثلت لى صورة البائع أمام عربته مرتدياً الجلباب المفتوح الصدر ويظهر من فتحته الصديرى ذو الأزرار الصغيرة العديدة ، لم أتبين ملامحه ولكنى رأيت يده ممسكة بالمنشة تهش الطير ( الذباب ) عن كومة البلح الأمهات ذات اللون الذهبى الداكن ، تردد فى أذنى صوت آخر ينادى ” العنب يوكل ” ، رأيت وجه أبى يضحك وهو يجيبنى حين سألته عن معنى ” يوكل ” ويجيب :
– سألت أبى نفس السؤال وأنا فى مثل سنك فقال ، يؤكل .. يعنى نضج وأصبح صالحاً للأكل.
العنب فى الخريف هو العنب الفيومى كبير الحبة كثير البذر ، كان هناك نوع آخر أخضر اللون طويل الحبة حلو المذاق كان جدى لأمى يحضره عند زيارته لنا وكان ينصحنى أن أقرش البذرة بدلاً من محاولة إخراجها … تتابعت فى أذنى نداءات الباعة ، لم أكن أفهم معظمها ولكنى كنت أعرف النغمة المميزة لبائع السميط والزبادى أما الخضر فيمر بالمنطقة بائعان شقيقان يقف أحدهما فى أول الشارع والثانى فى منتصفه .
فى الصباح كانت نداءات سيدات المنطقة على الشقيقين لا تنقطع ، يا عبد الرازق … يا صابر ، تردد فى أذنى صوت ” أم بلبل” جارتنا فى الطابق العلوى وهى تدخل فى حوار لا ينقطع مع أحد الشقيقين حول أسعار الخضر ، تفاصل دون هوادة مع البائع بصوتها الشبيه بأجراس المدارس اليدوية فى ذلك الوقت حتى ييأس البائع ولا يجد سبيلاً إلا تجاهلها فتصيح بانفعال :
” يا عبد الرازق رد علىّ ، مابتردش ليه ؟ “.
كانت السلال المعلقة فى حبال طويلة هى وسيلة تبادل السلع والنقود بين السيدات والباعة إلا أننى كنت أحياناً أنزل لشراء الخضر فأحاول انتقاء بعض الثمار وأضعها فى إناء من الصاج على شكل مخروط ناقص قاعدته مسطحة يسميه الباعة ” البقوطى ” ثم يفرغه البائع فى كفة الميزان ، الغريب أننى لشدة الشبه بين الشقيقين كنت لا أعرف حين تسألنى أمى ممن اشتريت المطلوب إلا إذا ناداه أحد أمامى فكيف تعرفه السيدات من الدور الرابع أو الخامس ؟
رحت ألح على أمى فى السؤال فتبتسم ولا ترد وأخيراً قالت ببساطة ” تنادى السيدة على أقربهما من المنزل بأى الاسمين فيدرك على الفورأنه المقصود “.. صحيح ، كلام منطقى .
ويرن جرس الباب فإذا هو بائع اللبن يحمل القسط ويملأ الكوز المعدنى المعيارى ويفرغه فى الكسرولة التى نقدمها له مرتين ، وهنا يفتح باب الشقة المقابلة ويظهر وجه جارتنا الغاضب وتبدأ فى تعنيف بائع اللبن لأن ما اشترته منه فى اليوم السابق قَطع ( فسد ) وتتهمه أنه يغش اللبن وينفعل الرجل بشدة ويرد بلهجته الصعيدية نافياً التهمة وكلما زاد انفعاله تدمع عيناه فيمسحهما بظاهر كفه ، ولم ينته النقاش إلا حين أشار البائع إلينا قائلاً :
– الشقة المقابلة أخذوا من نفس القسط فلمَ لم يقطع عندهم ؟
شعرنا بالحرج فآثرنا الصمت وانصرف البائع وأغلقنا الباب وسألت أمى ” هل كان البائع يبكى ؟ ” فأجابت :
-لا ، هو لا يبكى ولكن عينيه تدمعان من شدة الانفعال ، الصعايدة شديدو الانفعال .
أغمض عينى محاولاً العودة إإلى النوم فأحس بيدى تقبض على قطع النقود المعدنية وتداعب أنفى رائحة الخشب المكدس فى الدكاكين على يسارى يجلس أمامها بعض المعلمين بجلابيبهم بينما معظم صبيانهم فى سراويلهم البيضاء وفوقها الصديرى البلدى ، أنحرف يمينا عند جامع (الأميرأسنبغا ) .. فى المنزل المجاور يظهر دكان أنور البقال المتواضع يفصله منزل واحد عن دكان نصار الفخم ، لا مجال للمقارنة بين الإثنين ، أنور الفلاح برقبته الطويلة البارزة من ياقة جلبابه الكالح اللون وطاقيته البنية وحركته البطيئة وكلماته المقتضبة ، ونصار بالبالطو الأبيض وسرعة حركته وطلاوة لسانه ، رغم ذلك يصبر أنور على المنافسة ولا يفقد زبائنه ومعظمهم من عمال مخازن الأخشاب وتلاميذ الكتاب الملحق بالجامع الذين تمنعهم فخامة محل نصار على الأرجح من التفكيرفى ارتياده .
بنظرة على أحد أرفف المحل شبه الخالية ألمح من بعيد بغيتى
من علب الصابون المبشور ” أومو” فأدخل لشرائها ، كالعادة أرى على الكاونتر جبل الحلاوة الطحينية وسكينة الحلاوة الضخمة وبجواره طبق من الصاج به قوالب الجبنة القديمة وعلى الأرفف قطع مكعبات صابون الغسيل الردئ ذات اللون الأسود ، كان أنور منشغلاً ببيع الملبس ” الأرواح ” لتلاميذ الكتاب حين سمعت من خلفى صوت شاب يناديه :
” عم أنوَىْ .. عندك بياض تى يى (تيرى) ؟ ” وحين يهز أنور رأسه بالنفى يسأله :
” طيب .. زهية (زهرة ) غسيل ؟ ” ويهز الرجل رأسه بالإيجاب هذه المرة ويستدير لإحضارها .. وهنا تُسمع بوضوح ضحكات بعض التلاميذ المتجمعين خارج المكان وأصوات عالية تكرر :
” عم أنوى .. هات زهية غسيل ”
ويخرج الشاب لتعنيفهم فيركضون مبتعدين بأقصى سرعة ومازالوا يضحكون فيصيح الشاب متوعداً :
” طيب .. طيب يا أولاد الكلب منك له ”
*******************