اللغة العربية تستصرخ أهلها
إن اللغات جميعها تمر بفترات انكسار كما تمر بفترات انتصار، وانكسار اللغة أو انتصارها يتوقف على أهل تلك اللغة، فحينما ينتصر أصحاب لغة للسانهم تزدهر اللغة التي يتحدث بها القوم، وحينما يتخلى أهل لغة عنها ويستخدمون لسانا غير لسانهم فإنهم يهزمون لغتهم.
لكل لغة من اللغات عوامل قوة تضمن لها البقاء، فإذا ما اعترى هذه العوامل الضعف، تعرضت اللغة لهزة كبيرة، وإذا ما انهارت تلك العوامل انهارت معها اللغة، مؤذنة بنهايتها، فإذا هي من اللغات البائدة، وإذا بها في بطون الكتب تُحْفَظ، ولا تجد من يسعى إلى تعلمها لانقضاء الحاجة لذلك، حيث أصبحت تراثا، وماضيا مع ما مضى من أحداث وأزمان وشخوص.
تعرضت آلاف اللغات لعوامل الاندثار، فاندثرت، ومرت على العديد من اللغات أزمات فنجى منها ما نجى، وضاع منها ما ضاع عبر الدهور، وجابهت بعض اللغات معارك عنيفة، فأظهرت القوية منها شراسة في التمسك بالبقاء، ذلك البقاء الذي لم يخل من ندوب كثيرة، جعل هناك مشقة كبيرة في فهم تلك اللغة في أزمانها البعيدة، كما هو حاصل في لغات مثل الألمانية والهولندية والإنجليزية وغيرها من اللغات، التي لكل منها لغة قديمة – لا يستطيع أصحاب تلك اللغات الآن فهمها ولا التحدث بها – ولغة حديثة متطورة عن تلك السابقة.
ولقد نجت اللغة العربية – رغم المعارك الهائلة التي خاضتها – من هذا التبديل والتحول الذي نال كل اللغات المعاصرة، فلا نعرف لغة من اللغات يمكن أن يُقْرأ نصّ تمت صياغته بها منذ ما يزيد عن ألف وخمسمائة عام – الشعر الجاهلي يمتد في التاريخ مئتي عام قبل البعثة النبوية، حسب بعض النظريات – في عصرنا الراهن ويفهم بوضوح وجلاء دون الحاجة إلى دراسة وبحث إلا اللغة العربية، وهذه خاصية فريدة لهذه اللغة الفريدة، تلك الفرادة التي خصها بها كتابها المقدس “القرآن الكريم” الذي نزل بلسان عربي مبين، فحفظ ذلك اللسان “إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون”. صدق الله العظيم.
إن هذا الحفظ من لدن العزيز الحكيم لم يمنع من أن ينال اللغة العربية سهاما؛ نتيجة لتلك المعارك التي خاضتها: قديما وحديثا، جعلتها في بعض الأحيان من الوهن بمكان، وجعلتها محشورة في زاوية الانتقاد، ومتهمة بالعجز في مواجهة غيرها من اللغات، وفي مواكبة العصر، هذا الاتهام الذي هي منه براء، وذلك الانتقاد الذي يجب أن يوجه إلى غيرها، وعلى وجه الدقة يوجه إلى أهلها، الذين أهملوها، والذين استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير حينما لجأوا إلى غيرها من اللغات، وحينما أعرض لسانهم عنها، وحينما ذهبوا يفتشون في شواطئ غير شواطئها، ويلجون في بحار غير بحرها، وحينما أصبح كل إسهامات العلم الحديث من غير العرب الذين يسمون مخترعاتهم وإسهاماتهم بأسماء من اللغات الناطقين بها وهو ما يصبغ هذه اللغات بصبغة الحداثة والمعاصرة وتظل اللغة العربية تلهث فى اللحاق بالترجمة، واختيار الألفاظ التى قد تبدو غريبة على الدارس أو حتى الأشخاص العاديين وهو ما يدفع أهلها بالسباحة في محيطات غير محيطها متوهمين أنهم سيحصلون على صيد ثمين غير مدركين أن بها روعة لا تتوفر في غيرها، وبها جمال لا يرقى له أي جمال في أية لغة، وبها جواهر تستصرخ غواصا ماهرا لاكتشافها:
أنا البحر في أحشائه الدر كامن
فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي
فيا وَيحَكُم أبلى وتَبلى مَحاسِني
ومنْكمْ وإنْ عَزَّ الدّواءُ أساتِي
فلا تَكِلُوني للزّمانِ فإنّني
أخافُ عليكم أن تَحينَ وَفاتي
أرى لرِجالِ الغَربِ عِزًّا ومَنعَةً
وكم عَزَّ أقوامٌ بعِزِّ لُغاتِ
أتَوْا أهلَهُم بالمُعجِزاتِ تَفَنُّنًا
رحم الله حافظ إبراهيم