اللغة العربية: بين عظمة الإرث وتحديات العصر
بقلم: بهجت العبيدي رئيس التحرير
في اليوم الذي يُحتفى به عالميًا باللغة العربية، نجد أنفسنا أمام إرث ثقافي ولغوي يُعتبر أحد أعظم ما أنتجته البشرية على مر العصور. فليس الحديث عن اللغة العربية مجرّد حديث عن وسيلة للتواصل، بل هو حديث عن حضارة غنية وتراث فكري وأدبي لا يزال يوحي بإلهامه للعالم حتى يومنا هذا. ومع ذلك، يبقى السؤال ملحًّا: هل يمكن وصف أي لغة بأنها أبلغ أو أفصح من أخرى؟
إن الحقيقة تؤكد أنه لا توجد لغة تُعدّ بطبيعتها أكثر بلاغة أو فصاحة. فاللغة، أي لغة، ليست سوى وسيلة للتعبير يُستخدمها الإنسان للاحتفاء بأفكاره ومشاعره. من هنا، فإن البلاغة والفصاحة ليستا صفتَيْن جوهريتين للغة، بل تعكسان قدرة مستخدميها على التعبير الإبداعي والتواصل الفعّال. فقد نجد فردًا يتحدث العربية، ولكنه يعاني من عجز في الإقناع، بينما يمكن لشخص آخر يتحدث لغة أقل شهرة أن يبهر مستمعيه بعمق معانيه ووضوح أفكاره.
مكانة اللغة العربية وخلودها عبر القرون
ما يُميز اللغة العربية ويجعلها فريدة بين اللغات هو قدرتها الاستثنائية على البقاء خالدة عبر الزمن دون أن تفقد هويتها. فمنذ أكثر من ألف وستمائة عام، لا يزال الشعر الجاهلي والنصوص القديمة مُفْهومة بسهولة لمن يقرأها اليوم، مما يعدّ ظاهرة نادرة بين اللغات. ولعل السبب الرئيسي وراء هذا الخلود هو ارتباط العربية بالقرآن الكريم، الذي حفظ لها هياكلها النحوية وصونها من التحريف.
وعند المقارنة، نرى اللغة الإنجليزية التي كتب بها وليم شكسبير، أحد أعظم شعراء الأدب الإنجليزي، قد تطورت إلى حد يجعل القراء في حاجة إلى شروحات ومعاجم لفهم نصوصه الأصيلة. في المقابل، تظل العربية، بفضل قوتها الداخلية وثرائها التعبيري، قادرة على نقل الأفكار والمعاني عبر العصور، دون أن تفقد بريقها.
الجمود الفكري وأثره على اللغة العربية
رغم هذا التراث الحافل، فإن اللغة العربية تمر بتحديات الجمود الفكري، الذي ترك بصماته على المجتمعات العربية لفترات طويلة. فالعقول توقفت عن الإبداع والابتكار، مما أثر على لغة الهوية ذاتها، وقد تراجعت مساهمتها في إثراء الفكر الإنساني وإنتاج المعرفة العلمية والتكنولوجية.
وفي سياق ذلك، يُشير المفكر المصري توفيق الحكيم إلى أن “اللغة ليست مجرد وسيلة للتعبير، بل هي مرآة تعكس فكر الشعوب وثقافتها.” بينما يرى الأكاديمي البريطاني روجر آلن أن “اللغة العربية تتمتع بجمال وصعوبة تجعل منها لغة مثالية للدراسة والتأمل.”
شهادات عالمية حول العربية
ورغم هذه التحديات، تظل اللغة العربية محط اهتمام عالمي، يشيد بها المفكرون والمستشرقون الأجانب. فقد عرّف الأديب الألماني الكبير يوهان فولفغانغ فون جوته العربية بوصفها “لغة الشعر والبيان”، مُعبرًا عن إعجابه بعمقها وجمالها. كما يجد المستشرق الفرنسي إرنست رينان أن “من أغرب ما وقع في تاريخ البشر هو انتشار اللغة العربية. فقد كانت هذه اللغة مجهولة ثم بدأت فجأة في غاية الكمال، سَلِسَة، وغنية، بحيث لم تتغير منذ ذلك الحين.”
إن هذه الشهادات تُبرز بشكل فعّال التفرد الذي تتمتع به اللغة العربية، حيث أنها تظهر كمالًا في قواعدها ومفرداتها مما يزيد من قابليتها لتبني العلوم والفنون عبر العصور.
دعوة للحفاظ على اللغة والارتقاء بها
في ظل التحديات التي تواجهها اللغة العربية، تبرز الحاجة الملحة إلى أن يتحمل أبناء المجتمع العربي مسؤولية الحفاظ على هويتهم اللغوية والارتقاء بها. فلا يكفي أن نفخر بتاريخها العريق، بل يجب أن نسعى نحو تفعيلها في ظل تطورات العصر، من خلال تحديث مناهج التعليم، وتشجيع الإبداع الأدبي والعلمي، والمساهمة الفاعلة في الحضارة الإنسانية.
إن اللغة العربية ليست مجرد وسيلة للحوار أو الكتابة، بل هي هوية ووجدان يُكوّن الروح الثقافية للأمة. ومتى استعاد الأفراد ثقتهم بأنفسهم وعملوا بجدّ، ستظل العربية دائمًا لغة البيان والإبداع والتواصل الإنساني الذي يتجاوز الزمان والمكان.
في هذا السياق، يجب على المجتمعات العربية أن تعمل على تعزيز مكانة لغتها من خلال الاستثمار في التعليم وتنظيم الفعاليات الثقافية، مما يُسهم في قيمتها الحقيقية في عالم يتجه نحو العولمة. فلتكن العربية، لغة التاريخ والحضارة، قادرة على مواجهة المستقبل بكل قوة وعزم.