رئيس التحرير

في خان الخليلي… حيث تمتزج نكهة التاريخ برسائل السياسة

قراءة في جولة ماكرون والسيسي بالقلب الثقافي للقاهرة

بقلم: بهجت العبيدي رئيس التحرير 

في ليلة مصرية من ليالي الربيع الدافئة، تجول الرئيسان عبد الفتاح السيسي وضيفه إيمانويل ماكرون في أزقة خان الخليلي التاريخية، واختتما زيارتهما بجلسة دافئة على مقهى نجيب محفوظ، وسط تصفيق حار من المواطنين المصريين. لم يكن هذا المشهد لحظة بروتوكولية عابرة، بل كان مسرحًا متكامل الرمزية، محملًا برسائل ثقافية، وسياسية، وتاريخية، تعبر حدود اللحظة وتستدعي الذاكرة الجمعية بين شعبين.

رمزية المكان: قلب القاهرة الثقافي

خان الخليلي، الحي الذي تتنفس فيه روح القاهرة القديمة، ظل لقرون مركزًا للحرف والفنون والروح الشعبية. إن وجود الرئيسين فيه، وتفاعلهما المباشر مع المواطنين، لم يكن مجرد لفتة شعبية، بل كان اعترافًا حيًا بمكانة هذا المكان بوصفه مرآة للهوية المصرية.

أما مقهى نجيب محفوظ، حيث اختتمت الجولة، فلم يكن اختيارًا عشوائيًا. فمحفوظ، الأديب المصري العالمي، هو تجسيد للهوية المركبة التي تنبض بها القاهرة: الحكمة الشعبية، والتقاليد، والفلسفة الإنسانية التي حاز بها نوبل. فجلوس ماكرون في هذا المكان، الذي يحمل اسم كاتب طالما عبّر عن الحارة المصرية، بدا وكأنه جلوس في حضرة ذاكرة مصر الثقافية.

من الحملة الفرنسية إلى البعثات… ذاكرة ممتدة

إن هذه الزيارة تستحضر ماضيًا طويلًا من العلاقات المصرية الفرنسية، لم تبدأ بالحاضر، بل تعود إلى أواخر القرن الثامن عشر، حين جاءت حملة نابليون محمّلة بالعلماء والباحثين، لتنتج «وصف مصر» وتزرع أولى بذور الحداثة في التربة المصرية.

كما لا يمكن نسيان البعثات التعليمية التي أرسلها محمد علي باشا إلى باريس، وأشهرها تلك التي ضمّت رفاعة الطهطاوي، الذي لم يترجم فقط مفاهيم فرنسا التنويرية، بل أعاد صياغتها في إطار مصري متصالح مع ذاته وتاريخه.

البعد السياسي الرمزي: خان الخليلي كرسالة سلام

وربما الأكثر دلالة في هذه الزيارة – في ظل الحرب المستعرة اليوم في غزة – هو البعد السياسي غير المعلن، الذي يمكن استقراؤه من جغرافيا المكان نفسه. فخان الخليلي، والموسكي، وشارع عدلي، كانت لسنوات طويلة مناطق يسكنها اليهود المصريون، الذين عاشوا في تناغم مع المسلمين والمسيحيين، قبل أن تعصف رياح السياسة الإقليمية بهذا النسيج.

هنا تتجلى الرسالة الرمزية الثقيلة: إن التعايش ممكن. لقد كان واقعًا فعليًا في قلب القاهرة، ويمكن أن يكون مستقبلًا محتملًا في المنطقة، إذا ما توافرت الإرادة السياسية. إن الجولة في خان الخليلي، التي غطّتها وسائل الإعلام بكثافة، لم تكن فقط احتفاءً بالماضي، بل دعوة رمزية لاستحضار تجربة التعدد المصري كمنصة للتعايش في الشرق الأوسط.

صدى الزيارة في الإعلام المصري والدولي

سلطت وسائل الإعلام المصرية الضوء على التفاعل الشعبي الكبير، حيث وصف موقع القاهرة 24 المشهد بأنه «تاريخي»، مشيرًا إلى أن المواطنين المصريين احتفوا بالرئيسين بشكل منقطع النظير، والتقطوا الصور ووجهوا التحية في حتفال شعبي عفوي ومؤثر.

أما الصحافة الدولية، فلم تغب عن المشهد، إذ كتبت أسوشيتد برس أن الرئيس السيسي «أخذ الرئيس الزائر في جولة في سوق القاهرة الشهير استعدادًا لمحادثات حول الحرب في غزة» (AP News).

أما فرانس 24 فقد ربطت الزيارة بلقاءات سياسية مرتقبة حول القضية الفلسطينية، حيث ذكرت أن “ماكرون سيلتقي بالرئيس السيسي والملك عبد الله الثاني لعقد قمة ثلاثية حول غزة” (France 24).

من جهتها، قالت صحيفة Arab News إن “الرئيسين تناولا العشاء في أحد أشهر أسواق القاهرة في أولى لحظات الزيارة التي تستغرق 48 ساعة”، ما يؤكد على الطابع غير الرسمي والإنساني للجولة.

الشعب المصري… يحتفي بالاعتراف

لا يمكن إغفال الحفاوة الشعبية التي استقبل بها المصريون الرئيس ماكرون، والتي تجاوزت حدود المجاملة التقليدية لتكون تعبيرًا عن اعتزازهم العميق بمكانتهم كرواد للحضارة الإنسانية وصُنّاع للذاكرة العالمية. إن هذه الحفاوة لم تكن مجرد لفتة عابرة، بل رسالة واضحة إلى أوروبا، تؤكد فيها مصر قدرتها على أن تكون منبرًا للحوار، ونموذجًا فريدًا يجمع بين عمق الجذور ووهج الحداثة، وبين أصالة التاريخ ورحابة الانفتاح.

في النهاية ربما لم يقل ماكرون كلمة واحدة عن غزة، وربما لم يتحدث السيسي في تلك الجولة عن السلام، لكن خان الخليلي قال كل شيء. المكان كان هو الخطاب. والمقهى كان هو الوثيقة. والتفاعل الشعبي كان هو الاستفتاء.

هكذا تقول القاهرة، دائمًا، ما لا تقوله السياسة.

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى