الفتاوى الشاذة

بقلم الدكتور علي زين الدين الحسيني
ما يطفو على السطح من الفتاوى الشاذة والأقوال الغريبة لا يُردّ إلى ضعف التكوين العلمي وحده، كما قد يتبادر إلى كثير من الأذهان، وإنما وراء ذلك علّة أدقّ وأخطر، نادرًا ما يتنبه لها أحد، وهي أن كثيرًا ممن تصدّروا للفتوى والتعليم قد ركنوا إلى ما حصّلوه في سالف أيامهم، ورضوا بما في أذهانهم من محفوظات، فانقطعوا عن مدارسة العلم ومذاكرته وتجديد الصلة بالمسائل والفروع.
والعلم شديد المراس، لا يلين لمن أهمله، ولا يستقرّ في الصدر لمن لم يُعنَ به، وهو يتفلّت كما يتفلّت الماء من بين الأصابع، فلا يكفي أن يكون المرء قد تعلّم، وإنما الأهم أن يكون دائم الصلة بالكتب، موصول القلب بالعلم، مشغولًا به عن كل شاغل، كما كان عليه شيوخنا.
وقد كان أستاذنا الأكبر محمد رجب البيومي –رحمه الله- كثير المراجعة والقراءة، وأخبرني في أواخر حياته أنه يقرأ أكثر من أربع عشرة ساعة، وقد فهرس مجلة “الرسالة الزياتية” على الموضوعات، وظلّ يتعاهدها مراجعةً وتدقيقًا حتى يوم وفاته. وغيرُه من فقهاء العصر ممن أدركتهم، كانت لهم أوراد لا يُخلّون بها في مطالعة كتب الفقه، فهم لا ينظرون إلى العلم نظرة من بلغ الغاية وانتهى، وإنما يرونه بحرًا لا ساحل له، ومن توقّف عن السباحة فيه جرفته الأمواج بعيدًا، وهذا أمر مشاهد.
فالعبرة ليست في أن تكون عالمًا، وإنما في أن يكون العلم حيًّا في قلبك، متقدًا في فكرك، حاضرًا في حياتك. فادعُ الله ليلًا ونهارًا ألا يحرمك لذّة مدارسته، فإن من أدرك حقيقة العلم زهد في الدنيا، وأعرض عن زخارفها، ولم يجد سعادةً إلا في صحبة الكتب واستدامة النظر فيها.