عندما تصبح الخرافة تهديدًا للوعي: قراءة نقدية في تصريحات حول “الطلاسم السحرية”

بقلم بهجت العبيدي رئيس التحرير
في عالم يسعى جاهدًا نحو التقدم والحداثة، يتعين أن يكون الخطاب العام، وخاصة الصادر عن ذوي المناصب الأكاديمية والفنية، مبنيًا على دعائم معرفية قوية وواعية. ذلك لأن الخطاب الرصين والمعتمد على المعرفة يشكل حجر الزاوية في مسيرة النهضة الفكرية والثقافية لأي مجتمع.
غير أنه، عندما تصدح أصوات تحذر من “خطورة عرض الطلاسم السحرية” في الأعمال الفنية، كما جاء على لسان الدكتورة هبة عوف، أستاذة التفسير بجامعة الأزهر، والناقد أحمد سعد الدين، حول مسلسل “المداح”، نجد أنفسنا أمام أزمة معرفية تتطلب منا الوقوف عندها وتأملها بعمق. هذه التصريحات، بغض النظر عن نوايا أصحابها، تعكس نمطًا من التفكير يقوض قدرات المجتمع على تبني الأفكار الجديدة والانفتاح على الابتكار. فالانشغال بمثل هذه المخاوف قد يؤدي إلى إغفال الأبعاد الثقافية والفنية التي تسهم في تطور الفن وتحرره من القيود التقليدية.
إن التقدم الحقيقي ينبع من الوعي والمعرفة، وعلينا كأفراد ومجتمعات أن نسعى دائمًا لبناء جسور من الفهم والتفاهم بين مختلف المجالات الفكرية والفنية، لأن في تنوع الآراء واختلافها تكمن قوة الفكر وتقدمه.
عند تأمل تصريح الدكتورة هبة عوف أستاذة التفسير بجامعة الأزهر حول مسلسل “المداح” بأن “عرض الطلاسم السحرية قد يؤثر سلبًا على المشاهدين، خاصة الشباب والأطفال الذين قد يقلدون ما يرونه على الشاشة”، نجد أنفسنا أمام قضية تتعلق بتأثير وسائل الإعلام على الجمهور، وهو أمر لا يمكن إنكاره. لكن ينبغي علينا أن نتساءل: هل تكمن المشكلة الحقيقية في عرض تلك الطلاسم أم في تصديق الناس بفعاليتها من الأساس؟
إذا كنا نعيش في مجتمع يؤمن بأن كتابة رموز غير مفهومة يمكن أن تؤثر على الواقع المادي، فإن المشكلة الحقيقية ليست في الدراما بحد ذاتها، بل في العقلية التي تفسح المجال لمثل هذا الاعتقاد. هذه العقلية تُعزز من قبل مؤسسة أكاديمية مرموقة كالأزهر عندما يُحذر من خطورة تلك الطلاسم بدلاً من تفنيدها.
هنا تكمن المفارقة. فبدلاً من أن تقوم الدكتورة، التي تمثل مؤسسة علمية وثقافية عريقة، بتفنيد هذه الأوهام وتحليلها بأسلوب علمي يعتمد على العقل والمنطق، نجدها تعززها بالتحذير منها وكأنها حقيقة واقعة. وبدلاً من أن توضح للمشاهدين أن هذه الرموز مجرد شعارات ليس لها أي تأثير حقيقي، توحي بأن لها “خطورة” و”تأثيرًا سلبيًا”، وهذا بدوره يعزز الاعتقاد بأن الطلاسم تمتلك بالفعل قوة سحرية قادرة على التلاعب بالواقع.
في الوقت الذي يجب أن تكون فيه المؤسسات الأكاديمية صوت العقل والمعرفة، نجدها هنا – على لسان الدكتورة هبة عوف أستاذة التفسير بجامعة الأزهر – تسهم في نشر الجهل والخرافة. وهذا يعكس أزمة معرفية حقيقية تتطلب من المجتمع الوقوف عندها ومراجعة النفس. إن التصدي لمثل هذه الأوهام يبدأ بتغيير العقلية التي تؤمن بها، وبنشر الوعي والمعرفة العلمية بين الأجيال الشابة، ليكونوا قادرين على التمييز بين الحقيقة والخرافة، وبين العلم والوهم.
في عالم يموج بالأفكار والآراء، يخرج الناقد أحمد سعد الدين ليضيف بُعدًا آخر أكثر إثارة للجدل، حين يدعي أن “بعض الطلاسم المستخدمة في المسلسل قد تكون مأخوذة من مصادر حقيقية، مما يزيد من احتمالية تقليدها”. يا له من تصريح يحمل في طياته مفارقات عديدة تستدعي التوقف والتأمل.
حين يتحدث الناقد عن “حقيقية” الطلاسم، يدفعنا إلى التساؤل: ماذا يقصد بحقيقتها؟ هل تعني بأنها تمتلك تأثيرًا فعليًا على الواقع؟ وإذا كان كذلك، فكيف له أن يتأكد من ذلك؟ يبدو أن الناقد انزلق إلى فخ الإيحاء بوجود قوة سحرية خفية في هذه الطلاسم، وكأنه يتحدث عن تجربة علمية دقيقة وليست مجرد خرافة وأسطورة.
وفي مسعى لتعزيز موقفه، يطرح الناقد مسألة مسؤولية الرقابة، متسائلًا إن كانت تمتلك “الخبرة الكافية للتمييز بين الطلاسم الحقيقية وتلك المرسومة دراميًا”، وكأن هناك فارقًا جوهريًا بين الاثنين! الحقيقة التي يغفلها الناقد هي أن كل الطلاسم، سواء كانت مأخوذة من كتب سحر قديمة أو مبتكرة حديثًا، لا تمتلك أي تأثير حقيقي خارج إطار الخرافة والإيحاء النفسي.
هنا يتجلى الدور السلبي الذي يلعبه النقد غير المستند إلى أسس معرفية رصينة. بدلاً من أن يكون الناقد صوت العقل والعلم، نراه يسهم في نشر الأوهام وتعزيز الخرافات. إن مثل هذه التصريحات تساهم في تعزيز التصديق بالأفكار الزائفة وتساهم في تهميش العقلانية والتفكير النقدي في المجتمع. في النهاية، يُسلب الناقد بعذريته العقلية، قدرة المجتمع على التمييز بين الحقيقة والوهم، وينحرف به عن مسار التقدم والنهضة الفكرية.
إننا كمجتمع يسعى للحداثة، بحاجة ماسة إلى صوت العقل والمعرفة، وليس إلى نشر الأوهام والأساطير. علينا أن نواجه مثل هذه الأفكار بالعلم والمنطق، وأن نسعى لنشر الوعي والمعرفة الحقيقية التي تقوم على التفكير النقدي والتحليل العلمي.
إن المشكلة الحقيقية ليست في الدراما نفسها، بل في العقلية التي تتلقى هذه الدراما بحساسية مفرطة تجاه مفاهيم غير عقلانية. لقد كان ينبغي على شخصية أكاديمية كالدكتورة هبة عوف أستاذة التفسير بجامعة الأزهر أن تستغل الفرصة لتوضيح أن هذه الطلاسم لا تعدو كونها رموزًا خاوية لا معنى لها، بدلاً من الإيحاء بأنها “خطيرة” وذات تأثير سلبي.
كما كان على الناقد أحمد سعد الدين أن ينصب تركيزه على التحليل الفني للعمل الدرامي، بدلاً من الحديث عن “احتمالية تقليد الطلاسم”، وكأننا أمام وصفة سحرية حقيقية يمكن تنفيذها على أرض الواقع. إن مثل هذه التصريحات لا تصيب المجتمع إلا في أعز ما يملك: العقل والمنهج النقدي. عندما تصدر هذه المقولات عن شخصيات مؤثرة، فإنها تعزز الخرافة وتمنحها سلطة لا تستحقها تحت ذريعة التحذير منها.
وهنا تكمن المفارقة العجيبة: إن كان الخوف من تأثير الطلاسم ينبع من كونها مجرد “رموز بلا معنى”، فلماذا نخشى الحديث عنها؟ وإذا كنا نؤمن بأن لها قوة وتأثيرًا، أليس هذا يعني أننا بذلك نروج لها بدلاً من محاربتها؟ إن مسؤولية الإعلام، والنقاد، والمتخصصين الأكاديميين، ليست في ترهيب الناس من وهم، بل في تفكيك هذا الوهم وإعادة بناء العقل الجمعي على أسس علمية صلبة، لا تترك مجالًا لهذا النوع من التفكير الذي يعيد المجتمعات قرونًا إلى الوراء، بدلاً من التقدم نحو المستقبل.
ينبغي أن يكون الهدف الحقيقي هو تحرير العقل من الأغلال الفكرية التي تُكبل قدرته على التمييز بين الحقيقة والوهم، بين العلم والخرافة. إنه لمن المهم جدًا أن تُقدَّم رسالة واضحة بأن هذه الطلاسم ليست سوى رموز لا تأثير لها، وأن هذا الاعتقاد بقدرتها على التأثير هو الذي يجب أن يُحارب. علينا أن نعمل جاهدين على نشر الوعي والمعرفة العلمية التي تستند إلى التفكير النقدي والتحليل المنطقي، لأن هذا هو السبيل الحقيقي نحو تقدم المجتمع وتحقيق النهضة الفكرية.
إن التصدي لمثل هذه الأوهام يبدأ بتغيير العقلية التي تؤمن بها، وبنشر الوعي والمعرفة العلمية بين الأجيال الشابة، ليكونوا قادرين على التمييز بين الحقيقة والخرافة، بين العلم والوهم. فعلى المجتمع أن يعزز قيمة التفكير النقدي والتحليل المنطقي، لأنه بذلك يضع الأساس لبناء مستقبل يبتعد عن الخرافات ويقترب من الحقيقة والمعرفة.