الصيام عبر الزمن: من عادات القدماء إلى عبادة الإسلام

بقلم بهجت العبيدي رئيس التحرير
الصيام ليس مجرد عادة عابرة في التاريخ، بل هو تجربة إنسانية متجذرة في أعماق الوعي البشري، ارتبطت منذ القدم بفكرة السمو الروحي، وكأن الإنسان، حين يعمد إلى كبح غرائزه، يكون في حالة من الترقّي، متجاوزًا حدود الجسد إلى فضاءات الروح. لم يكن الصيام يومًا فعل حرمانٍ بقدر ما كان وسيلةً للوصول إلى نقاء داخلي، تحرّرٍ من قيود المادة، وإحساسٍ مختلف بالحياة. لهذا، لم يكن غريبًا أن تجده حاضرًا في مختلف الحضارات، يتخذ أشكالًا متعددة، لكنه يظل في جوهره نداءً داخليًا لاستعادة صفاءٍ مفقود.
في مصر القديمة، كان الصيام طقسًا مهيبًا، يؤدّيه الكهنة قبل الدخول إلى المعابد، استعدادًا لمخاطبة الآلهة. لم يكن الأمر مجرد انقطاعٍ عن الطعام، بل تطهيرًا كاملًا للنفس والجسد، عزلةً عن شواغل الحياة، وتركيزًا في التأمل، وكأن من أراد الاقتراب من المقدّس، كان عليه أن يتخفّف من أثقال الدنيا. ولم يكن الكهنة وحدهم من مارسوا الصيام، بل كان المصريون يصومون في مناسباتٍ مرتبطةٍ بدورات الطبيعة، فحين كانت الشمس تحتجب في الكسوف، أو يهيمن الظلام في الخسوف، كان الصيام وسيلةً لاسترضاء القوى الغامضة التي تحكم الكون، اعتقادًا منهم بأن الصوم قد يكون نوعًا من القربان الذي يعيد التوازن إلى العالم. كما صام المصريون عند حلول بعض الأعياد، لا سيما تلك التي تتعلق بالإله أوزوريس، سيد البعث والحياة بعد الموت، وكأنهم في صيامهم كانوا يتهيأون لرحلة روحية توازي رحلته في العالم الآخر.
أما اليهود، فقد ارتبط الصيام عندهم بيوم الغفران، حيث يتجرد المؤمنون من شهواتهم، طلبًا للمغفرة، وانقطاعًا عن ملذات الحياة، ليكونوا في حضرة الإله وقد تخلّصوا من أدران الذنوب. ولم يكن يوم الغفران الصيام الوحيد في الديانة اليهودية، فقد عرف اليهود أيامًا أخرى للصيام، غالبًا ما ارتبطت بالمِحَن والنكبات، فحين شعر أهل نينوى بأن العذاب يوشك أن ينزل بهم، لم يجدوا وسيلةً للنجاة سوى أن يصوموا جميعًا، رجالًا ونساءً وأطفالًا، بل حتى دوابّهم، في مشهدٍ يعكس إحساسًا عميقًا بالضعف أمام قدرة الله. ومع ظهور المسيحية، ظلّ الصيام قائمًا، لكنه اتخذ شكلًا مختلفًا، حيث أصبح تقييدًا لأنواع معينة من الطعام بدلاً من الامتناع التام، في إشارة إلى أن الهدف من الصيام ليس الامتناع في ذاته، بل تهذيب النفس وتقوية الإرادة، حتى يظل الإنسان قادرًا على ضبط رغباته، فلا يكون أسيرًا لها.
أما في جزيرة العرب، فلم يكن الصيام مجهولًا قبل الإسلام، فقد عرفته قريش، سواءً تأثرًا باليهود أم كنتيجة لموروثٍ ديني ضائع في دهاليز الزمن. فلقد كان بعض العرب يصومون نذورًا، حيث يمتنع الواحد منهم عن الطعام تحقيقًا لغرض معين، وكأن الجوع، في تصوّرهم، نوعٌ من المقايضة مع القدر، فكلما ازداد العطش، ازدادت احتمالات تحقق الأمنيات. كما صام البعض تكريمًا لأيام بعينها، تمامًا كما فعل عبد المطلب حين صام شكرًا لله بعد حفر بئر زمزم.
ثم جاء الإسلام ليعيد تشكيل مفهوم الصيام، فلم يعد وسيلةً لمساومة القدر، ولا طقسًا يؤديه الكهنة وحدهم، ولا مظهرًا من مظاهر الحزن أو التوبة عند وقوع الكوارث، بل أصبح عبادةً ذات نظامٍ محكم، تؤدّى في زمان محدد، وفق نهج واضح. لم يكن الصيام في الإسلام غاية في ذاته، بل كان طريقًا إلى التقوى، تمرينًا روحيًا يُعيد توازن الإنسان بين حاجات الجسد ومتطلبات الروح، فلا يطغى أحدهما على الآخر. لم يُفرض الصيام بلا رحمة، بل كان هناك رخصةٌ لمن لا يطيقه، وفديةٌ لمن يعاني مشقةً لا تُحتمل، حتى لا يكون في الامتناع عن الطعام قهرٌ للنفس، بل ترويضٌ لها، حتى يتعلم الإنسان كيف يتحكم في رغباته، بدلاً من أن يكون خاضعًا لها.
في الصيام، يعيش المجتمع تجربةً جماعية، يشترك فيها الجميع، فيتساوى الأمير والخادم، الغني والفقير، فلا تفرقة بين أحد، الجميع يعانون الجوع نفسه، ويتذوقون طعم العطش ذاته. كان الهدف من ذلك أن يشعر الشبعان بما يعانيه الجائع، وأن يتذكّر من يمتلك الطعام أن هناك من يحرم منه، فتنشأ في النفس حالة من التعاطف، ويترسّخ الإحساس بالمساواة، وتُكسر الحواجز التي يضعها التفاوت الاجتماعي بين البشر.
لم يفرض الصيام في الإسلام خوفًا من عقاب إلهي، كما كان في بعض الديانات السابقة، ولم يكن مجرّد وسيلة للتكفير عن الذنوب، بل كان رحلةً روحية، يتنقل فيها الإنسان بين الصبر والحرمان، ليصل في النهاية إلى الصفاء الداخلي. في كل يوم صيام، يختبر الإنسان قوته على المقاومة، وفي كل لحظة جوع، يتعلّم كيف يسيطر على رغباته، وفي كل ساعة انتظار، يدرك أن الحياة ليست مجرد طعامٍ وشراب، بل تجربة أعمق من ذلك، تتجاوز الغرائز إلى إدراك معاني الرحمة والتأمل والانضباط.
هكذا لم يأت الإسلام ليطمس الصيام، بل ليعيد تشكيله، فيحوّله من عادةٍ فردية إلى عبادةٍ مجتمعية، ومن طقسٍ غامضٍ إلى نظامٍ واضح، ومن حرمانٍ عبثي إلى انضباطٍ هادف. أصبح الصيام في الإسلام أكثر من مجرد جوعٍ وعطش، بل تجربةً تهذيبية تعيد الإنسان إلى ذاته، وتجعله أكثر إدراكًا لحقيقة أنه ليس مجرد جسدٍ يأكل ويشرب، بل روحٌ تسعى إلى السمو، وتبحث عن معنى أعمق للحياة.