رئيس التحرير

التحديات السكانية في القرن الحادي والعشرين: قراءة مالتوسية في الواقع المصري والعالمي

بقلم بهجت العبيدي رئيس التحرير 

حين نشر توماس روبرت مالتوس نظريته حول العلاقة بين السكان والموارد أواخر القرن الثامن عشر، لم يكن العالم قد شهد بعد الطفرات التكنولوجية التي غيرت وجه الزراعة والصناعة. لكنه، رغم ذلك، أدرك حقيقة جوهرية: حين يتجاوز عدد البشر قدرة الموارد على استيعابهم، فإن النتيجة الحتمية هي المجاعة، والفقر، والصراع على البقاء. كان تحذيره صارخًا: بينما ينمو السكان وفق متوالية هندسية، فإن الغذاء لا يزيد إلا وفق متوالية حسابية، مما يعني أن البشرية تسير حتمًا نحو كارثة، إلا إذا تم ضبط النمو السكاني بوسائل طبيعية أو إرادية.
على مدى أكثر من قرنين، بدا أن التطورات العلمية قد قلبت الطاولة على تلك النظرية، إذ نجحت الهندسة الوراثية، وتكنولوجيا الزراعة، والثورة الصناعية في مضاعفة إنتاج الغذاء، كما أتاحت الاقتصادات الحديثة فرصًا أوسع لاستيعاب أعداد متزايدة من البشر. لكن مع حلول القرن الحادي والعشرين، عادت مخاوف مالتوس لتفرض نفسها من جديد، ليس بسبب نقص الإنتاج الغذائي فحسب، بل لأن التحدي السكاني بات يتجاوز مجرد مسألة الغذاء ليشمل التوزيع العادل للموارد، واستنزاف الطبيعة، والتغير المناخي، وانفجار الفقر في بعض المجتمعات التي لم تدرك بعد أن النمو السكاني غير المتحكم فيه قد يكون أسرع طريق نحو الهاوية.
في مصر، حيث يتجاوز عدد السكان 120 ملايين نسمة، يواجه المجتمع معضلة مالتوسية بكل تفاصيلها. فبينما تحاول الدولة تحقيق التنمية، تبتلع الزيادة السكانية كل إنجاز جديد، مما يجعل المسافة بين الاحتياجات والموارد تتسع عامًا بعد عام. كل مولود جديد ليس مجرد رقم في السجل المدني، بل هو احتياج إضافي في منظومة الخدمات، مقعد دراسي جديد يجب توفيره، فرصة عمل جديدة يجب خلقها، وحدة سكنية جديدة يجب بناؤها. لكن حين يكون الداخلون إلى سوق العمل أكبر من فرص التشغيل، وحين يفوق عدد الأطفال الجدد قدرة المدارس على استيعابهم، تصبح التنمية أشبه بمطاردة سراب.
مصر ليست وحدها في هذا المأزق. دول مثل بنغلاديش، ونيجيريا، وأفغانستان تواجه مصيرًا مشابهًا، حيث تتزايد أعداد السكان بوتيرة تفوق بكثير قدرة الدولة على تلبية الاحتياجات الأساسية. ومع تفاقم الفجوة بين الفقراء والأغنياء، يصبح الفقر عابرًا للأجيال، إذ يولد ملايين الأطفال في أسر غير قادرة على تأمين أساسيات الحياة، مما يؤدي إلى حلقات متواصلة من التهميش الاجتماعي والاقتصادي.
على الجانب الآخر من العالم، حيث الإدراك المبكر لهذه المشكلة، تبنت الدول المتقدمة سياسات سكانية واعية، أدت إلى تحقيق التوازن بين عدد السكان والموارد المتاحة. في النمسا، على سبيل المثال، لا يُترك النمو السكاني للصدفة، بل يخضع لحسابات دقيقة، تضمن أن كل فرد يحصل على نصيبه العادل من التعليم، والرعاية الصحية، والخدمات الاجتماعية. بل إن بعض هذه الدول، مثل اليابان وإيطاليا، تعاني من انخفاض معدل المواليد، مما دفعها إلى تقديم حوافز لإنجاب الأطفال، ولكن ضمن سياسات مدروسة لا تهدد الاستقرار الاقتصادي أو الاجتماعي.
الفارق الأساسي بين هذه المجتمعات والمجتمعات التي تعاني من التضخم السكاني لا يكمن في الموارد وحدها، بل في العقلية التي تدير هذه الموارد. في حين يدرك المواطن في الدول المتقدمة أن الأسرة ليست مجرد أعداد تتكاثر بلا حساب، بل مسؤولية تتطلب تخطيطًا دقيقًا، لا تزال بعض المجتمعات النامية تنظر إلى كثرة الأبناء كضمان اقتصادي، متجاهلة أن هذا الاعتقاد لم يعد صالحًا في عالم أصبح التعليم والمعرفة فيه هما الثروة الحقيقية.
هناك من يرى أن التكنولوجيا قد تجاوزت تحذيرات مالتوس، وأن الحل يكمن في استمرار تطوير الزراعة والصناعة لمواكبة الزيادة السكانية. لكن الواقع يقول إن المشكلة لم تعد في إنتاج الغذاء فقط، بل في استنزاف الموارد الطبيعية، والتغيرات المناخية التي تهدد الأراضي الزراعية، والتوسع العمراني العشوائي الذي يلتهم المساحات الخضراء، وتراجع مستوى الخدمات الصحية والتعليمية بفعل الضغط السكاني.
إن الحل لا يكمن في مجرد التوعية، بل في بناء وعي جديد يعيد تشكيل نظرة المجتمع إلى مفهوم الأسرة، وفي سياسات حكومية جريئة تواجه الأزمة دون مواربة، وفي قرارات اقتصادية تضمن توزيعًا أكثر عدالة للموارد. إن التعليم هو المفتاح، فحين ترتفع معدلات التعليم، تنخفض معدلات الإنجاب، وحين يكون تمكين المرأة أولوية، تصبح الأسرة أكثر وعيًا بقراراتها المستقبلية، وحين يتم الاستثمار في الصحة والبحث العلمي، يصبح السكان مصدر قوة لا عبئًا يثقل كاهل الدولة.
لقد كان مالتوس يرى في المستقبل تهديدًا، لكنه لم يكن مخطئًا بالكامل، بل كان سابقًا لعصره. فالاختبار الحقيقي للبشرية اليوم ليس فقط في قدرتها على إنتاج الغذاء، بل في قدرتها على تحقيق التوازن، بين العدد والنوعية، بين الموارد والاستهلاك، بين ما يمكن تحقيقه وما يجب التخلي عنه. وإذا لم تدرك المجتمعات التي تعاني من التضخم السكاني خطورة الأمر، فقد تجد نفسها يومًا ما في مواجهة سيناريو مالتوسي لا مفر منه، حيث تصبح الحياة صراعًا دائمًا، لا بحثًا عن التقدم، بل عن مجرد البقاء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى