ترامب و”ترحيل” الفلسطينيين… بين التصريح والتبرير
بقلم بهجت العبيدي رئيس التحرير
لم تكن تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب حول تهجير سكان غزة إلى مصر والأردن مجرد زلة لسان أو طرحًا عابرًا في سياق سجالاته السياسية المعتادة، بل كانت اختبارًا لحساسية القضية الفلسطينية في المشهدين الإقليمي والدولي. ولم يكد هذا التصريح يشعل فتيل الغضب في العواصم العربية حتى جاء التوضيح من مخلص رعد مخلص، مستشار الأمن القومي في إدارة ترامب، ليحاول امتصاص التداعيات، مؤكدًا أن ما قاله سيد البيت الأبيض ليس أمرًا أو طلبًا، وإنما مجرد اقتراح. لكن في السياسة، لا شيء يقال اعتباطًا، ولا شيء يُنكر إلا بعد أن يُختبر.
لقد حمل تصريح ترامب في طياته رسائل متعددة الاتجاهات؛ فمن جهة، خاطب بها تياره اليميني المتشدد، الذي لطالما رأى أن حل القضية الفلسطينية لا ينبغي أن يكون على حساب إسرائيل، بل يجب أن تتحمل تبعاته دول الجوار. ومن جهة أخرى، بدا وكأنه يضع بالون اختبار سياسي لمعرفة حدود الرفض العربي، ومدى إمكانية تمرير حلول بديلة تضمن إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية للمنطقة بما يخدم المصالح الإسرائيلية في المقام الأول.
لكن الردود التي توالت لم تترك مساحة للتأويل أو التفاوض. جاءت القاهرة بحسمها المعهود، وأكدت أن الشعب المصري لن يقبل بأي محاولة لفرض واقع جديد على حساب السيادة الوطنية. أما عمّان، التي خبرت تداعيات اللجوء الفلسطيني لعقود، فقد أغلقت الباب أمام أي فكرة تتعلق بتوطين الفلسطينيين خارج أرضهم، معتبرة أن مثل هذه الطروحات ليست سوى محاولات للتهرب من جوهر الصراع.
وهنا، لم يكن أمام الإدارة الأميركية سوى إعادة ضبط خطابها، فجاء المستشار ليطرح لهجة أكثر دبلوماسية، تؤكد أن الرئيس ترامب منفتح على “بدائل أخرى” تساعد سكان غزة على تجاوز أزماتهم، وكأن هذه الإدارة لم تكن تعلم مسبقًا أن مأساة القطاع ليست بحاجة إلى ترحيل، بل إلى عدالة طال انتظارها. لم يكن التوضيح الذي قدمه مخلص رعد مخلص مجرد تعديل للموقف الأميركي، بل كان تراجعًا تكتيكيًا أمام موجة الرفض الشعبي والرسمي التي اجتاحت المنطقة.
ما حدث يكشف بوضوح أن كل من الضغط الشعبي والموقف الرسمي الصلب لا يزالان يمتلكان القدرة على تحجيم الطروحات التي تحاول الالتفاف على الحقوق الفلسطينية. فلو لم تكن الأصوات الرافضة قد تعالت بهذه القوة، لربما وجدنا الإدارة الأميركية تمضي قدمًا في إعادة تدوير فكرة التهجير كحل قابل للنقاش. لقد أثبتت الشعوب أن موقفها ليس مجرد صدى لمواقف حكوماتها، بل قوة ضاغطة تجبر حتى أقوى الإدارات على إعادة حساباتها.
هكذا، يظل مشهد التصريحات والتبريرات والردود المتبادلة شاهدًا جديدًا على معادلة لم تتغير: القضية الفلسطينية ليست مجرد ورقة تفاوضية، والشعوب التي رافقت مأساتها منذ عقود لا تزال الحارس الأول على بوابة الرفض، حتى وإن ظن البعض أن الزمن قد استهلك هذا الرفض أو أفقده قيمته.