رئيس التحريرسياسة

الجنون في الحكم: من الحاكم بأمر الله إلى ترامب … بين الطبع والتكتيك السياسي!

بقلم بهجت العبيدي رئيس التحرير 

عبر التاريخ، لم يكن جميع الحكام رجال دولة تقليديين تسيرهم الحكمة ويضبط قراراتهم العقل البارد، بل ظهر بينهم من بدت أفعاله شاذة عن المألوف، وكأن الجنون قد وجد في السلطة مرتعًا خصبًا ليزهر على هيئة مراسيم وقوانين وقرارات غريبة، أذهلت الرعية وأدهشت المؤرخين من بعدهم. لكن، هل كان الأمر دائمًا كذلك؟ أم أن بعض هؤلاء الحكام لم يكونوا مجانين بالمعنى الحرفي، بل كانوا يدركون أن اللاعقلانية الظاهرة قد تكون أداة حكم، وسلاحًا يحقق لهم ما لا تحققه السياسة التقليدية؟
ربما لم يكن هناك نموذج أكثر وضوحًا لهذا الأمر من الحاكم بأمر الله الفاطمي، ذاك الخليفة الذي سار في شوارع القاهرة ليلاً يراقب الناس بنفسه. لقد تولى الحاكم السلطة في فترة تاريخية مضطربة، حيث كانت النزاعات السياسية والدينية في أوجها، مما أثر بشكل كبير على قراراته وسياسته.
لقد أصدر الحاكم بأمر الله أوامر لم يسبقها حاكم، كتحريم أكل الملوخية. ولم تقتصر أوامره على الطعام فقط، بل منع النساء من الخروج من بيوتهن حتى اضطر التجار إلى إغلاق متاجر الأقمشة لكسادها، بل إنه أحيانًا كان يفرض على الناس السهر في أوقات معينة والنوم في أوقات أخرى، كأنما أراد أن يصنع توقيتًا جديدًا للمدينة بأكملها وفق مزاجه الشخصي.
ورغم قراراته المثيرة للجدل، شهد عهده إصلاحات اقتصادية وإدارية هامة. فمن بين إنجازاته الاقتصادية تحسين نظام الضرائب وتقليل العبء المالي على المواطنين، كما سعى إلى تطوير البنية التحتية وتحسين إدارة الموارد المالية للدولة. لقد أظهر الحاكم في بعض قراراته عقلًا مستنيرًا، حتى بدا وكأنه رجل ذو وجهين؛ أحدهما للحكمة والآخر للتهور، وكلاهما يتركان أثرًا لا يُمحى في تاريخ مصر.
من الناحية الثقافية والدينية، كان للحاكم بأمر الله تأثير كبير، حيث سعى لتعزيز الفكر الفاطمي ونشر التعليم والمعرفة. وعلى الرغم من سلوكياته المستبدة، إلا أن بعض المؤرخين يرون فيه شخصية معقدة تجمع بين الحكمة والتصرفات غير التقليدية، مما جعله يُعدّ أحد أكثر الحكام إثارةً للجدل في تاريخ مصر.
لكن إذا كان الحاكم بأمر الله ينتمي إلى زمن تغلفه الأساطير والأحاجي، فإن عجلة التاريخ لم تتوقف عن إنتاج أمثاله. ففي روما القديمة، حيث كانت أبراج القصور تعانق السماء وتهيم بين صفحات المجد، جلس الإمبراطور نيرون على العرش، وكان افتتانه بذاته لا يقل عن قسوته العارمة على رعيته. أضرم النار في روما ليشبع جنون العظمة الذي يسكن داخله، ثم وقف يعزف القيثارة على مشهد النيران المتأججة، كأنما كان يرى المدينة كلها كمسرح لعروضه الخاصة، تدور أحداثها وسط الدمار والخراب.
ومع ذلك، لم يكن نيرون مجرد طاغية مخبول يغرق في بحر من الجشع والانتقام. ففي لحظات نادرة من صفاء العقل، أبدى اهتمامًا بالفنون الجميلة، وقام بدعم الفنانين والموسيقيين والشعراء. ولم يكتف بذلك، بل أطلق مشاريع عمرانية ضخمة، تشمل بناء القصور والمعابد والتماثيل الضخمة، محاولًا أن يخلّد اسمه على طريق يجمع بين الخراب والبناء في آن واحد. فكان كما لو كان يريد أن يكتب فصولاً جديدة في تاريخ الإنسانية، حيث يمتزج النور بالعتمة، وتتداخل العظمة مع الجنوح.
كانت مشاريعه العمرانية تتجسد في قصر دوموس أوريا، الذي بني على أطلال المدينة المدمرة، ليكون رمزًا لفخامته وسلطته المطلقة. وبينما كان الشعب يعاني من الجوع والفقر، كانت هذه المباني الشاهقة تبنى بأعلى درجات البذخ والإسراف، كأنها تشهد على تناقضاته الداخلية وصراعه الأبدي بين الطموح والجنون.
تظل صورة نيرون لغزًا محيرًا، يتردد صداها عبر الأجيال كأيقونة متناقضة، تمزج بين الابتكار والتدمير، وبين الشغف والعنف. في كل سطر من قصته، نجد انعكاسًا لصراع الإنسان الأبدي بين الخير والشر، وبين البناء والهدم، وكأنما كانت روما نفسها مدينة تتنفس هذه التناقضات.
عبر الزمن، ظلّت السلطة محور التفاعل البشري، متغيرةً في أدواتها لكنها ثابتة في جوهرها، حتى بلغنا العصور الحديثة، حيث لم يعد الملوك وحدهم من يسيّرون دفّة الحكم، بل دخلت الديمقراطيات عصرًا جديدًا تحكمه الديناميكيات الإعلامية وتأثير الرأي العام الفوري. في هذا السياق، برز دونالد ترامب، رجل الأعمال القادم من عالم العقارات والإعلام، ليصبح الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة بأسلوب غير مسبوق في السياسة الأمريكية.
ترامب لم يكن مجرد سياسي تقليدي؛ بل خاض حملته الانتخابية كما لو كانت عرضًا ترفيهيًا، مستفيدًا من وسائل الإعلام التي وجدت في تصريحاته الجريئة والمثيرة للجدل مادةً دسمةً للمتابعة والنقاش. فبأسلوب يشبه المصارعة الحرة، حيث يعتمد المصارع على الاستفزاز لجذب الجمهور، وظّف ترامب شخصيته النرجسية وخطابه المباشر لخلق حالة من الاستقطاب غير المسبوق. لم يكن يخشى كسر الأعراف السياسية، فهاجم الصحافة، وسخر من خصومه، وأعاد تعريف الخطاب الرئاسي بلهجة شعبوية تستهدف الناخب الأبيض المتضرر من العولمة والتغيرات الاجتماعية.
لكن، هل كان ترامب مجرد مهرج في البيت الأبيض، أم أنه أدرك بذكاء أن العصر الرقمي يتطلب زعيمًا يجيد إثارة الجدل حتى وهو يحكم؟ رغم فوضوية أسلوبه، فإن سياساته الاقتصادية حملت بُعدًا براغماتيًا واضحًا، حيث خفّض الضرائب، وأعاد التفاوض على الاتفاقيات التجارية، وفرض قيودًا على الهجرة، في خطوات لاقت تأييد قاعدته الانتخابية. كما أن خطابه لم يكن شاذًا عن التيار العام، بل كان انعكاسًا لصعود تيار يميني قومي بات يرى في الفوضى شكلاً جديدًا من القيادة، وهو التيار ذاته الذي دفع ببوريس جونسون في بريطانيا وشخصيات مماثلة في أوروبا إلى واجهة المشهد السياسي.
ولم يكن نهجه المثير للجدل مقتصرًا على الداخل الأمريكي، بل امتد إلى السياسة الخارجية، حيث كسر العديد من الأعراف الدبلوماسية بتصريحاته غير المسبوقة تجاه زعماء العالم. لم يخفِ ازدراءه للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، واصفًا سياسات بلادها بأنها “كارثية” بسبب استقبال اللاجئين، بينما أشاد بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، معتبرًا أنه “أكثر ذكاءً” من القادة الغربيين. وفي موقف آخر، وصف رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو بأنه “ضعيف ومخادع” بعد قمة مجموعة السبع، في خروج صارخ عن البروتوكولات الدبلوماسية. كما أثار صدمة عندما قال عن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون: “لا أحد يحتاج إلى نصيحة من رجل يعاني من معدلات شعبية متدنية”، في ردٍّ على انتقادات ماكرون لسياساته. أما زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون، فقد نعته في البداية بـ”الرجل الصاروخ المجنون”، قبل أن يتحول لاحقًا إلى التغزل به، واصفًا إياه بأنه “ذكي جدًا ويحب شعبه”.
وتجلى افتقار ترامب للحسّ السياسي والدبلوماسي في تعامله مع قضايا الشرق الأوسط، حيث لم يتردد في طرح مقترحات مستفزة دون مراعاة لحساسيتها التاريخية والسياسية. ولعل أبرزها ما كشفته تقارير إعلامية عن ضغوطه على كل من مصر والأردن لقبول مخطط توطين الفلسطينيين من غزة في سيناء والأردن كحلّ للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. لم يكن هذا الطرح مجرد تجاوز للأعراف السياسية، بل عكس جهلًا بطبيعة الشعوب العربية التي لا تقبل أن تُفرض عليها حلول تتعلق بسيادتها الوطنية. والأدهى من ذلك، أن ترامب لم يلجأ إلى القنوات الدبلوماسية المغلقة، بل دفع بهذه الأفكار علنًا عبر وسائل الإعلام، متجاهلًا الحساسية التاريخية والجيوسياسية للمنطقة، وكأنه يتعامل مع الدول العربية وكأنها بيادق في لعبة شطرنج يحركها وفق رؤيته الخاصة، متجاهلًا أن السيادة الوطنية ليست قضية قابلة للمساومة، وأن حتى أكثر القادة براغماتية لا يستطيعون فرض مثل هذه الحلول على شعوبهم.
فالمصريون ينظرون إلى سيناء باعتبارها جزءًا مقدسًا من ترابهم الوطني، خضبت أرضها دماء الشهداء في حروب متتالية للحفاظ عليها، ولا يمكن لأي من كان، مهما بلغت قدرته أو قوته، أن يعبث في تغيير هويتها أو توطين غير المصريين فيها دون أن يواجه مقاومة شعبيًة قبل الرسمية هائلة، فكل ذرة رمل في سيناء عند المصريين دونها الرقاب. وكذلك الحال في الأردن، حيث يشكل الملف الفلسطيني جزءًا حساسًا من التركيبة السياسية والاجتماعية للبلاد، ولا يمكن لمثل هذا المقترح إلا أن يهدد استقرار المملكة ويُعتبر مساسًا بهويتها الوطنية.
لم يدرك ترامب، بعقليته التي تمزج بين رجل الأعمال والمصارع الإعلامي، أن السياسة في العالم العربي لا تُدار بنفس المنطق الذي يراه في واشنطن أو نيويورك. فحتى معارضي السيسي وعبد الله الثاني، ممن يختلفون مع سياساتهم الداخلية، كانوا ليقفوا موقفًا موحدًا في رفض أي إملاءات تمسّ بسيادة بلادهم. وهذا ما يكشف أن ترامب، رغم كونه رئيس أقوى دولة في العالم، لم يكن يفهم طبيعة المنطقة التي يحاول التعامل معها، وأنه فشل في إدراك أن كلماته وتصريحاته العلنية ليست مجرد “آراء” يمكن التراجع عنها لاحقًا، بل مواقف تُشكّل نظرة الشعوب لحكمه وإرثه السياسي.

وهكذا، لم تكن تجربة ترامب في الحكم مجرد خروج عن التقاليد السياسية الأمريكية، بل كانت انعكاسًا لعصر جديد من الزعامة الفوضوية، حيث يتم استبدال الحكمة بالاستفزاز، والبراغماتية بالدعاية، والقيادة الحقيقية بجاذبية الشخصية. لكن السؤال الذي يبقى مطروحًا: هل كان ترامب حالة استثنائية، أم أنه دشن لمرحلة جديدة تصبح فيها السياسة صراعًا إعلاميًا أكثر منها فنًا لإدارة الدول؟
إن التاريخ لا يكرر نفسه، لكنه يعيد إنتاج بعض أنماطه بوجوه جديدة، فكل عصر يفرز حكامه بما يوافق تركيبته النفسية والاجتماعية. إن الحاكم بأمر الله لم يكن ليحكم لو لم تكن مصر الفاطمية مستعدة لرؤية الخليفة كظل لله على الأرض، ونيرون لم يكن ليجد مكانه في غير روما التي آمنت بأن الأباطرة أشباه آلهة، وترامب لم يكن ليصعد إلا في زمن الإعلام الصاخب والشعبوية المتفجرة. لكن يبقى السؤال: هل هؤلاء القادة كانوا حقًا غريبي الأطوار، أم أنهم فهموا شعوبهم أكثر مما فهمهم الناس؟ وهل كان جنونهم صادقًا، أم مجرد قناع يرتدونه حين تقتضي مصلحة الحكم؟
إن التاريخ لا يمنح إجابات قاطعة، لكنه يترك لنا إشارات، ويجعلنا نتأمل كيف يمكن أن يجتمع النبوغ والجنون في قاعة الحكم، وكيف يمكن أن تتحول الفوضى إلى أداة سياسية، وما إذا كان العالم قد انتهى من إنتاج هؤلاء القادة، أم أننا لم نرَ بعد أسوأهم… أو أذكاهم!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى