تقارير مصريةصحة وجمالغير مصنف

جعلوني مجرما …قانون: المسئولية الطبية وحماية المريض

دكتور جمال مصطفى سعيد

شكرا للاستاذ طارق رضوان. Tarek Radwan

كل عام وأنتم جميعًا بخير…
احتفلت ببداية العام الجديد، عام 2025 بعد سيادتكم بأربعة أيام، وذلك بسبب تقليد سنوي اعتدت عليه في اول شهر رجب في كل سنة هجرية، حيث يتطوع زملائي الأطباء وتلاميذي المنتشرين في قرى إحدى المحافظات الساحلية الجميلة بجمع الحالات المستعصية والمعقدة والمرتجعة للأورام السرطانية، لإجراء العمليات اللازمة لهم مجانًا بالكامل، زكاة عن صحتي وأولادي ومالي، كما كان يوصيني بذلك والدي عليه رحمة الله قبل ما يقرب من أربعة عقود. الهدف ليس فقط مساعدة المرضى، بل أيضًا تعليم الأطباء في بداية مشوارهم المهني.
ولسوء حظي، وخلال الرحلة الطويلة التي قطعتها بالسيارة والذي تصادف ان كانت في اليوم الأخير من العام الميلادي، وبينما يستعد الآخرون للاحتفال بليلة رأس السنة متزينين بملابس السهرة ويتطلعون إلى قضاء ليلة جميلة، استمعت إلى نقاش حاد عبر راديو السيارة حول القانون الجديد الذي اسموه (المسئولية الطبية وحماية المريض) وهو القانون الذي كان ينتظر الأطباء صدوره منذ سنوات والذي كان الشغل الشاغل لمجتمع الأطباء قبلها بأيام. كان الجدل يدور بين أطباء معارضين وأعضاء في مجلس النواب مؤيدين وآخرين من النقابة محتارين، وشعرت – أو قل فهمت – وكأن هناك نية مبيتة لجعل الحبس عقوبة أساسية للأطباء في هذا القانون عند ظروف معينة. هذه الفكرة جعلتني أرتجف؛ فأنا ذاهب تطوعا لإجراء عمليات تحمل مخاطر عالية جدًا بحكم طبيعة المرض وشراسته وبحكم أنها كلها حالات متأخرة ومركبة وربما مرتجعة ونتائجها غير مضمونة، لأن الشفاء بيد الله وحده. تخيلت نفسي، إذا حدثت إحدى المضاعفات المحتملة لا قدر الله، أنني قد أجد نفسي خلف القضبان بعيدًا عن بيتي وأسرتي بمائتي كيلومتر… ولا حول ولا قوة إلا بالله، وفكرت للحظات أن أخذ أقرب يو تيرن وأعود أدراجي من حيث جئت ويا دار ما دخلك شر.
طردت الفكرة من ذهني تمامًا لأنني تيقنت أنني إن اعتذرت فلن يقوم بإجراء هذه الجراحات أحد وستكون الخسارة الجسيمة عندئذ للمريض. لكني في ذات الوقت قررت عمل مناقشة داخلية مع نفسي وبعد ذلك مع من سأقابلهم من الأطباء الجراحين الذين هم من أصحاب المصلحة الرئيسية في أن يخرج القانون في صورة مقبولة من الجميع، … وقد كان.
واتفقنا فعلا على مبدأ كان هو بداية النقاش: اننا يجب أن نؤكد أن المناقشة، سواء كانت بالتأييد أو بالاعتراض، لا تعني أبدًا معاداة المصلحة العامة، بل تعكس تنوعًا صحيًا في وجهات النظر، رغم ان القانون يعكس بالقطع تصادمًا بين مصلحتين: مصلحة المجتمع بأسره في الحصول على رعاية طبية آمنة وفعالة، ومصلحة الأطباء في ممارسة مهنتهم دون خوف من العقاب الذي ربما يكون غير عادل. وكلا الطرفين له الحق في الدفاع عن موقفه. في هذا السياق، يجب أن نتذكر أن الدولة ليست طرفًا مباشرًا في هذا النقاش والتي حاول أحد المسئولين ان يقحمها بلا داع في إطار حماسه في الدفاع عن مسودة القانون، لان الدولة هي الإطار الذي يحتضن الجميع، ويعمل الجميع على الحفاظ على استقراره. ولكن يجب ان يكون معلوما أولا ان المضاعفات الطبية في العلاج الدوائي والجراحي هي جزء لا يتجزأ من المهنة الطبية. وقد كُتب عنها كثيرًا في الأدبيات الطبية، وهي لا تدل بالضرورة على وجود أخطاء. ولكن إذا ظهرت أخطاء طبية ناتجة عن إهمال أو نقص في الكفاءة، فلا بد طبعا من معاقبة الطبيب بما يتناسب مع حجم الخطأ، وهنا قفزت النقطة الجدلية الأولى: العقاب: وكان من وجهة نظرنا ومن وجهة نظري أنا شخصيا، أن العقاب يجب أن يكون ماديًا أو إداريًا أو تأديبيا، ولكن لا يمكن أن يشمل الحبس بأي حال من الأحوال. فالطبيب ليس مجرمًا، والمهنة الطبية تحمل بطبيعتها قدرًا من المخاطر والتعقيد. إذا اعتمدنا مبدأ الحبس، فلماذا لا يطبق أيضًا على المحامي الذي يخطئ في الدفاع عن موكله ويخسر قضيته مثلا
أما النقطة الجدلية الثانية فكانت: لماذا يكون رأي الطب الشرعي استشاريًا فقط، رغم انها جهة فنية تتبع وزارة العدل وليست وزارة الصحة؟ وقرارها قد لا يأخذ به القاضي، رغم أنه رأي فني متخصص؟ ولماذا تُترك الأمور لمن لا يملك الخلفية الطبية الكافية لفهم تعقيدات هذه القضايا؟
وكان الحل الأمثل في اعتقادنا جميعا هو إنشاء محكمة طبية مختصة، على غرار المحاكم الاقتصادية أو الرياضية. هذه المحكمة ستكون مجهزة بفهم معمق للقضايا الطبية، مما يضمن تحقيق العدالة بشكل أكثر دقة وإنصافًا، ومن محاسن الصدف ان يكون هذا الراي هو نفس رأى كاتب كبير وإعلامي عتويل هو الأستاذ حمدي رزق والذي كتبه في مقال صحفي في جريدة معتبرة ويستحق عليه التحية.
وفى النهاية، طبعا، يجب أن يصدر قانون المسؤولية الطبية، ولكن ليس على حساب رضى الأطراف المعنية بل يجب أن يكون قانونًا متوازنًا، يحمي حقوق المرضى دون أن يظلم الأطباء. فالمسئولية الطبية ليست مجرد قضية قانونية، بل هي مسألة إنسانية تمس كل فرد في المجتمع، وحسنا فعلت نقابة الأطباء ونقيبها المحترم بقرار تأجيل الجمعية العمومية لحين الاطلاع على المسودة النهائية للقانون التي ستصدر بعد شهر وعندئذ سيكون لكل حادث حديث. ونجح بهذا التصرف الذي لم يكن مجمعا عليه! في الإفلات من فخ الفوضى الذي كان ينصبه بعض المغرضين لمجتمع الأطباء…. وكلنا شعرنا بذلك

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى