رئيس التحرير

الإنسان المغترب: قراءة في فكر إريك فروم وأبعاد الاغتراب في الواقع المصري مع الدكتور حسن حماد

بقلم بهجت العبيدي

 

في سهرة من ليالي الفكر العميقة، خصصت مساء الأمس وقتي لمشاهدة تسجيل ندوة عقدت قبل ست سنوات في مقر حركة علمانيون بالقاهرة، حيث استضافت أستاذ الفلسفة الكبير والصديق العزيز الدكتور حسن حماد. تلك الندوة كانت محطة فكرية هامة تناولت مفهوم الاغتراب كما عالجه الفيلسوف وعالم النفس الألماني إريك فروم، وربطته بواقع الإنسان المصري المعاصر. وبينما كنت أتابع هذا النقاش الثري، وجدتني أستعيد تفاصيله وأتأمل في عمق ما قدمه الدكتور حماد، الذي لم يكتفِ بالشرح النظري، بل أضاء على أبعاد الاغتراب التي نشهدها في حياتنا اليومية.

لقد تحدث الدكتور حسن حماد عن مفهوم الاغتراب عند إريك فروم، الذي رأى أن الإنسان في المجتمعات الحديثة يعيش حالة من الانفصال عن ذاته، غارقًا في عالم مادي يطغى على القيم الإنسانية. فبالنسبة لفروم، فقد الإنسان علاقته الحقيقية بنفسه ومجتمعه، وتحول إلى أداة تخدم آليات السوق والرأسمالية، ما أفرغ حياته من المعنى. هذه الفكرة، رغم بساطتها الظاهرية، تفتح أبوابًا لفهم أعمق لأزمات العصر، حيث يصبح الفرد مجرد ترس صغير في آلة ضخمة تستهلك طاقته دون أن تمنحه شعورًا بالانتماء أو الغاية.

لقد استعرض الدكتور حماد أمثلة عديدة من الواقع المصري تعكس تجليات هذا الاغتراب. فقد أصبح المثقف المصري يعاني من عزلة فكرية، يجد نفسه في صراع دائم بين محاولاته للتعبير عن رؤى عميقة وبين واقع اجتماعي منشغل بتفاصيل الحياة اليومية. ففي هذا السياق، يظهر المثقف وكأنه مغترب عن ذاته وعن مجتمعه، غير قادر على بناء حوار فعال مع من حوله. إن هذا الاغتراب المزدوج يشبه ما تحدث عنه فروم عندما أشار إلى فقدان الإنسان قدرته على التفاعل الحقيقي مع محيطه.

إن الشباب المصري أيضًا ليس بمعزل عن هذه الظاهرة، إذ أشار الدكتور حماد إلى أمثلة من حياتهم اليومية، مثل تقليدهم لموضة “البنطال الممزق” التي بدأت كرمز للتمرد في مجتمعات غربية، لكنها فقدت معناها الأصلي عندما انتقلت إلى مصر. فهنا، لم تقتصر الظاهرة على التقليد الأعمى، بل أضيفت إليها تناقضات جديدة، مثل ارتداء سروال أسفل البنطال الممزق، مما يفرغه من رمزيته. إن هذا التناقض يظهر أيضًا في سلوك الشباب الذين قد يظهرون بمظهر عصري وحداثي، لكنهم يحملون في داخلهم أفكارًا تقليدية أو متشددة، مثل المطالبة بخضوع الخطيبة لرقابة صارمة على حياتها الخاصة، مما يعكس انفصالًا عميقًا بين مظهرهم وسلوكهم.

ولم يغفل الدكتور حماد الحديث عن ظاهرة أغاني المهرجانات، التي أصبحت تعبيرًا عن تمرد جيل من الشباب على القيم التقليدية. ورغم ما تمتلكه هذه الأغاني من شعبية واسعة، فإنها تعكس أيضًا حالة من فقدان الهوية والارتباط بالقيم المجتمعية. يرى الدكتور حماد أن هذه الظاهرة تكشف عن فراغ ثقافي وقيمي يعاني منه المجتمع، حيث تُستخدم الموسيقى كوسيلة للهروب من الواقع، لكنها تفتقر إلى مضمون بنّاء يمكنه أن يعيد للإنسان شعوره بالانتماء.

إن ما يجعل هذه الندوة ذات أهمية خاصة هو الربط العميق الذي قدمه الدكتور حماد بين الواقع المصري وأفكار إريك فروم، إضافة إلى استدعائه رؤى فلاسفة آخرين تناولوا مفهوم الاغتراب. فلقد تحدث عن هيجل الذي رأى الاغتراب كحالة روحية ناتجة عن انفصال الإنسان عن الروح المطلقة، وماركس الذي ركز على الاغتراب الاقتصادي والاجتماعي، حيث يصبح العامل منفصلًا عن منتجه وزملائه. كما أشار إلى كيركجارد الذي نظر إلى الاغتراب كفقدان العلاقة مع الله ومع الذات الأصيلة، وسارتر الذي رأى أن الاغتراب يحدث عندما ينكر الإنسان حريته أو يعجز عن ممارستها، مما يجعله أسيرًا لعالم لا يملك السيطرة عليه.

إن الدكتور حماد لم يكتفِ بالتشخيص، بل أشار إلى أهمية استعادة الإنسان وعيه بذاته كخطوة أولى لتجاوز حالة الاغتراب. فشدد على أن الحل لا يكمن في رفض القيم الحديثة أو العودة العمياء إلى التراث، بل في إيجاد توازن يعيد بناء العلاقة بين الإنسان وذاته ومجتمعه، وهو ما يتفق مع رؤية فروم التي ترى أن الحب، والتعاطف، والبحث عن المعنى هي أسس تجاوز هذه الأزمة.

وبينما انتهت السهرة، لم تنتهِ تأملاتي في هذه الندوة التي أعادت لي التفكير في واقعنا المصري. فبرغم مرور ست سنوات على انعقادها، ما زالت أطروحاتها صالحة للتأمل والنقاش، حيث تكشف عن أبعاد أزماتنا الاجتماعية والثقافية وتضعنا أمام سؤال ملح: كيف يمكن للإنسان أن يتجاوز اغترابه ويعيد الاتصال بذاته ومجتمعه؟ إن هذه الندوة لم تكن مجرد لحظة فكرية عابرة، بل دعوة صادقة للبحث عن معنى أعمق للحياة في عالم يزداد فيه الاغتراب يومًا بعد يوم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى