قراءة في قرارات القيادة العامة السورية: رؤية شاملة لمستقبل جديد
بقلم: بهجت العبيدي رئيس التحرير
إن القرارات التي أصدرتها القيادة العامة السورية مؤخرًا تحمل إشارات واضحة إلى رغبة في التغيير الجذري، وربما يمكن وصفها بأنها محاولة لوضع حجر الأساس لسوريا الجديدة. جاءت القرارات لتشمل قضايا جوهرية تتعلق بالثأر، وحرية المرأة، وإدارة الموارد، وحماية الإعلام، ما يعكس إدراكًا متزايدًا لأهمية بناء مجتمع أكثر عدالة ومساواة.
إن أبرز ما لفت انتباهي في هذه القرارات هو الشمولية التي حاولت القيادة من خلالها معالجة أزمات عميقة الجذور. فمثلاً، الإعلان عن عقوبات صارمة بحق أي محاولة لتصفية الحسابات أو إثارة الخلافات بين المواطنين، يمثل خطوة شجاعة في مواجهة ثقافة الثأر التي لطالما كانت عائقًا أمام التعايش السلمي في المجتمع السوري. وفي الوقت ذاته، فإن قرار منع المطالبة بدماء الشهداء أو استخدام ذكراهم لتحقيق مكاسب شخصية يعيد توجيه البوصلة نحو الهدف الأسمى، وهو أن تضحيات الشهداء كانت من أجل الوطن لا لتكريس أحقاد شخصية.
هذه القرارات، إذا تم تطبيقها بحزم وعدالة، يمكن أن تسهم في تخفيف حدة التوترات بين أفراد المجتمع، لكنها تتطلب توعية مكثفة للمواطنين لتغيير هذه الثقافة الراسخة منذ عقود.
إن ما يجعل هذه الحزمة من القرارات جديرة بالتوقف عندها هو تضمينها قرارًا بمنع التدخل في لباس النساء أو فرض أي قيود على مظهرهن، وهو ما يعد تحولاً كبيرًا في خطاب الجهات الحاكمة. احترام الحرية الشخصية، وخاصة فيما يتعلق بحرية المرأة، يمثل مؤشرًا على وعي القيادة بأهمية الانفتاح على مفاهيم حقوق الإنسان الحديثة. لطالما كانت هذه القضية محط جدل واسع في المجتمعات الشرقية، لكن هذا القرار يؤكد أن احترام خيارات الأفراد يجب أن يكون قاعدة ثابتة في أي مجتمع يسعى للتقدم.
وفيما يتعلق بالقرارات الاقتصادية، فإن تحديد كمية الخبز المسموح بشرائها لكل شخص بأربع ربطات يوميًا قد يبدو للبعض قيدًا جديدًا، لكنه في الواقع يعكس محاولة لضمان التوزيع العادل للموارد في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة. إن العدالة الاجتماعية في توزيع الموارد الحيوية هي أساس أي نظام يحترم حقوق مواطنيه، لكن هذا القرار بحاجة إلى رقابة صارمة لضمان عدم التلاعب به أو استغلاله لتحقيق مكاسب خاصة.
من جهة أخرى، جاء الإعلان عن فرض حظر تجوال في مدن رئيسية مثل دمشق وريفها واللاذقية وطرطوس ليشير إلى أن الملف الأمني ما زال حاضرًا بقوة. رغم أن مثل هذه الإجراءات قد تكون ضرورية في بعض الأحيان لضمان الاستقرار، إلا أن تطبيقها يجب أن يتم بحذر، مع مراعاة احتياجات المواطنين وضمان عدم انتهاك حقوقهم الأساسية أثناء تنفيذها.
وأكثر ما لفت الانتباه في هذه القرارات هو التشديد على حماية الإعلاميين ومنع التعرض لهم بأي شكل من الأشكال، سواء كانوا يعملون في المؤسسات الرسمية أو عبر منصات التواصل الاجتماعي. هذا القرار، إذا تم تنفيذه بجدية، يعكس التزامًا بحماية حرية التعبير وضمان دور الإعلام كركيزة أساسية في بناء الوطن. إن الإعلام ليس مجرد وسيلة لنقل الأحداث، بل هو شريك رئيسي في التغيير والإصلاح، وحمايته تعني حماية صوت الشعب وحقه في المعرفة.
ما يجعل هذه القرارات ذات أهمية خاصة هو أنها تأتي في لحظة فارقة من تاريخ سوريا. بعد سنوات من النزاع والانقسام، يبدو أن القيادة تسعى لإطلاق رسالة مفادها أن سوريا الجديدة ستكون مختلفة، لكن يبقى السؤال: هل هذه الخطوات تعكس قناعة حقيقية بأهمية التغيير أم أنها مجرد محاولة لتهدئة الوضع الداخلي أو كسب الوقت؟
إننا ندعم هذه القرارات إذا كانت جزءًا من رؤية شاملة لمستقبل تسوده العدالة والمساواة، ونؤمن أن احترام الحريات الفردية هو أساس بناء أي مجتمع متقدم. لكن في المقابل، إذا اتضح لاحقًا أن هذه الإجراءات ليست سوى تحركات تكتيكية لا تعكس تحولًا جذريًا في الفكر أو الممارسة، فسنكون أول من يواجه هذه السياسات، لأننا نرفض أي محاولة للالتفاف على حقوق المواطنين أو تكريس الممارسات القديمة تحت غطاء جديد.
في النهاية، تبقى الكرة في ملعب القيادة السورية. القرارات وحدها لا تكفي، ما لم تُترجم إلى أفعال واضحة على أرض الواقع، وما لم يشعر المواطن السوري أن هذه التوجهات تهدف بالفعل إلى تحسين حياته وضمان حريته وكرامته. إذا كان هذا البيان هو بداية عهد جديد، فسوريا تستحق الدعم والفرصة لبناء مستقبل أفضل. أما إذا كان مجرد وعود، فإن الشعب السوري يستحق منا جميعًا أن نقف إلى جانبه في مواجهة أي محاولات لفرض قيود جديدة على حرياته تحت شعارات براقة.