بقلم مصطفى فرج الطبولي
عند شحوب السماء، والفجر ينفث بنفس طويل صدر المزرعة، تستيقظ الخيول المُهملة تنف بكبرياء الزمن تطرد بقايا التراب، تجاكر علو السحاب لكنها تختار قفز الأرانب عن هيبة الخباب!، ينصح الوالد ابنه البليد ليُرمم ما خلّفه من خراب،
تعلم الام ابنتها كيف تحيك الصبر، وتحفظ العِبَر، والقطط خلف النافذة تشاجر الكلاب، مياه القرية تشرب الأرض، وتترك البراح للسراب، فكرة المثقف مومسة، وثرثرة المتخلف مؤنسة، وجميع طيور الحي يعجبها ارتجال الغراب، تتشائم النساء من صوت الغناء، وتستلذ بصفع العذاب!، الحكماء يعبّدون الطريق أمام الصواب حيث الذهاب، ولا آياب، الأتقياء لا يحبّون الحياة، ولا يعرفون الممات، شيخ القرية يحصر التُقى في العِمامة، وفساد الدم في الحجامة، ويكبّ العمل في القُمامة،
هذا ما يهذي به المجنون “أحمد”، ينادي السماء، أريد وجها غير وجهي، وأرجل غير أرجلي، وقلبا غير قلبي، لأسقي عطش الوَرد، وأعيد فهم الوِرد، وأعيش “الآن”، لا أستحضر البارحة، ولا أتهيأ الغد، يردد بصوت مبحوح غارق، وعقل في اللاشيء عالق، يصنع لبوحه المشانق، يرسم لآهاته الملامح، ينتظر السرور أن يعانق، ويستجدي القلق أن يفارق، يعالج جراحه بالتغافل والطمي، يكتب الحدائق للمبصرين، والعمي، يقتنص اللحظة من أفواه الطبيعة، يهجر قلبه كي يطيعه!، يرتدي “بدلة” من قماش شامي، يدس في حقيبته الكهلة كتابا، و بقايا الطعام!؛ يأكل رأيه بشراهة، يرمي حلمه على وجوه الباعة!؛ يسلم ابتسامته للقطط بكل وداعة، يمسح عبوسه في وجوه المارة من لقطاء الثرثرة، والمرغمين على خَنق ابدائهم في الحنجرة، يمشي بين الأزقة مستثقلا خِفة الهوى كأنما يخطّ خلف خطواته الصدأ، يربت على وطنه ليستعطف العِدى، يمدّ ناظره الضعيف بعينين جاحظتين كأنه يحاصر المدى، يشدّ منكبيه محاولا تثبيت قلبه، يفرش لحيته نكاية في السعادة المفرغة كي ينام على سوادها الندى، يرمي كلمات مخضبة بريقه فيرتفع شاربه، ويهتز رأسه حتى تتعرى فراغات شعره، ويتعرّق نحره، يوهم الآخر بكبر سنّه كلما انتفض صدره من سعاله،
طالما فلسطين قد باعها أبناؤها لماذا لم يشتريها من يتخذون من النفط لحافا يستر كل شيء عدا عوراتهم؟
؛ يسأل علي “بائع الفحم” سيجارة ثم يُعاود نحيبه مداره،
لماذا لا يمزجون الشعر الشعبي بالأوبرا ؟ والنحيب بالضحك؟
ونرقص على أغاني الجاز كلما نقص عن قريتنا الغاز ؟ علّنا نلهو ولا نبالي، ونعيد حياكة الخيام، ونتناسى العمران، والمباني !
يقترب من وجهه حتى يكاد يلتصق بأنفه المخضب بالدهن، والرماد
أتعرف أنني أحب التاريخ جدا لأننا عشناه، وسيجنا للحاضر الضريح!، يلقِ سؤالا، لا ينتظر إجابته، وكيف ينتظر الإجابة من أحطَّت غايته مِراسه، وأوقع أمله تحت مداسه، يحك قذاله بقلمه، ويمضي حيث دوافع حسرته
لطالما كان علي يحاول مزج سؤاله بسؤال تشوبه سخرية،
لماذا تحبه طالما سيج للحاضر الضريح ؟
تدور حدقتيه إلى السماء، يتحسس بيديه حرشفة الفناء : لأن الكره لا يجلب المراد ، والحب ينثر الزرع في خدّ الصحراء وحده التقبّل ينضجها محمرة، قُبلا كانت أم بكاء؛
فقط كي نعيش من أجل البقاء، يجرّ على شاربه بإبهامه المشقق، أليس العيش من أجل البقاء يعجز عنه الكثير. ممن يموتون وراء الإشارة، والعُلى، أولئك المتسولين ضحايا الأنفة، و”الأنا” …..؟
يترك” علي” بقميصه البرشلوني”، ونقوده البائدة يركض خلف شتائم الأطفال، يتوقف فجأة يأسا من مطاردة المحال، ينفض” جاكته” بعنفوان يتجه شمال القرية يشمّ زفرات الأدغال، ويُشكو سقمه للبغال، يعود هرعا إلى علي، والغضب يشكِّل ملامحه عويلا باردا
يشير بيده المجعدة كأنه يلطم الهواء، ويزجر هفوة “الآه”،
لماذا تنهي حياة الشجر أيها السفاح القذر ؟
يقلب علي قبعته ضاحكا ملىء “الأرق ”
لأنني بحثت عن البغال لأشكو همي فلم أجد البغال، ولازلت إلى الآن أرمم عقلي خوفا من سطوة الجنون، وأن تسطر القرية في حكاياتها بدل الأحمد أحمدان !.
علي هو الابن الوحيد للحاج سالم كان والده تاجرا ماهرا، يتلاعب بذكائه اللامحدود أمام المشتري فتتوافد الأموال بين يديه كما تتوافد الأحرف في بصيرة الشعراء، وينسكب الشرف في جبَّته العتيقة لينال مهابة العلماء، حتى صالت فيه الدنيا، وجالت، ركله الزمان أعدمه الأمان، وأوكله للفقر، فأشربه العكر، بعدما قرر القائد ليلة مزاج أن يغير وجه العملة، ليُشوّه تطلُّع التجار، ويخضعهم أمام قامته التاريخية!، كم حاول جاهدا مصارعة العوز، والتملص من قبضة الحسرة، إلا أن خرير الحاجة فجَّر حجرة إقدامه .
إنها الحياة تنقض الوعد، و لا تترك لك سوى خياران إما الرضا، أو تصنّع الرضا، ارتدى ثوبه الفاخر! مرخيا فأسه على كتفه اليمنى، يتبعه الأسى حيث يهرول نحو الوديان، تقول زوجته” أم الخير” قبل طلاقها منه أنه كان ينهب التلال أشجارها، و يححب البهجة عن مزارها!، يترك الحطب قطعا قطعا على البطحاء، وفي بطون الخلاء، حتى يستشعر شفاء غلّه كأنه يتهم الطبيعة بنكبته، ثم يعود إلى البيت
لم يتهأ ذات ترف أن يصل به الحال إلى هذا المآل، الصدمة تقطم جوانب قلبه، النقمة تحرق صفحة وجهه،
تمزق صفاء حلقه، يتعذَّر لخطئه دائما بأن الحياة هي من أجبرته على هذا الهراء،!
منتفخ الصدر، يردد ” بعد ركوبنا على الخيل قعدنا عفاريت نفجعو”، ذات مساء سقيم وشى به أحد الجيران، طوق شرطة الغابات بيته هتكوا أقفال مخازنه لكن دون جدوى، لم يفلتو من دهائه، ولم تُصوّر “للكابو” حارس الغابات فطنته أنه قد يُبعثر خمسمائة كيس فوق سطح البيت !!، مما جعله يتجشأ غضبه، والغِل ينفخ أوداجه.
رجل ذميم، يحصر كرشه بحزامه، يترك أزرار قميصه مشرَّعة فيستقبل ناظرك شعر صدره الممسوخ بالبياض، تصافحك رائحة صنانه قبل يده، كان منضبطا في عمله، وفيا لطمعه، متابعا للوائح مَكره، يترك سفاحي الغابات حتى يتمُّو تأهبهم، وينسقوا الوصول إلى غايتهم كي يتلقفها طريّة بأوداج القانون، يتصدّق عند ذلك على اتباعه، وقوّاده خالد الأعرج بما قُسِّم له من صفقته الرابحة
وحدها اليتيمة “رجعة” التي بكت عليه حدّ التأقلم، وحزنت حدّ الغربة،
عندما وجودوه في زريبته مجثيا على وجهه، والفئران تدور خلف رأسه، وقد اتخذ البرغوث من لحيته المتسخة مسرحا للعبث،
عندما علم أن ابنه عليّ قد سرق نصف الفحم، وباعه “للكابو” في صفقة فاشلة!