مختارات

قراءة في قصّة ” الخريف”

أ. محمد موسى العويسات، القدس: 6 آب أغسطس 2024

 

قصّة قصيرة للكاتبة والرّوائيّة المصريّة هدى أحمد حجاجي

العنوان “الخريف”، والعنوان قد يوحي ببعض المضمون، قد يكون فصلا من فصول السّنة، الذي يعقب الصّيف وتتساقط فيه أوراق الشّجر ويثور فيه الغبار ويكون في الجوّ بعض الكآبة والضّغط النفسيّ، وقد يطلق الخريف على مرحلة الشّيخوخة في العمر، وهي مرحلة الضّعف وما يطرأ فيه من عجز ومرض، وقد جاءت الكاتبة بالأمرين، فجعلت فصل الخريف ظرف الزّمان لقصتها، وجعلت بطل القصّة في خريف عمره، فهو كبير السّنّ يتلقّى الرّعاية في دار المسنين أو ملجأ العجزة، فالحالة النفسيّة التي يعيشها الرجل تتساوق مع فصل الخريف، وهذه فنّيّة جميلة، تضع الأحداث في سياق نفسيّ ما، تجلّى فيه الرّبط بين الزّمان والشّخوص. وأمّا الشّخصيّة الثّانية فهي فتاة في ربيع العمر، أيّ الشّباب، تعمل في رعاية المسنّين، وتحمل معالم نفسيّة مناقضة تماما لنفسيّة ذلك العجوز، وتؤدّي واجبا إنسانيّا لا يؤمن العجوز بفكرته، والكاتبة وكما عودتنا، تغوص في أعماق نفوس شخصيّاتها فتكشف لنا أسرارها، التي تمثّل نماذج بشريّة نراها في واقع حياتنا. ملخّص القصّة رجل ثريّ يعود إلى وطنه عاجزا بعد حياة ماتعة في بلاد شتّى، فيكون مصيره ملجأ العجزة (دار الرّعاية)، والرّجل يرى أنّ ما يلقاه من عناية هو بسبب ماله، ولا يرى فيه إنسانيّة، تأتيه إحدى الممرّضات صغيرة السّنّ جميلة، تقوم بتنظيفه من البول وغيره، فيستغرب منها ذلك ويستهجنه، ويشمئزّ من نفسه، يحاورها فتؤكّد له أنّها تقوم بعمل إنسانيّ، مثل الطّبيب والمخبريّ والسّبّاك الذي يصلح شبكات المجاري، هكذا ترى مهنتها، فلا تشعر باشمئزاز وكآبة. ولكنّه يبقى في نفسه وحواره الداخليّ يصرّ على أنّها مهنة غير إنسانيّة، يقول في نفسه: ” لا ضرورة لأيّ شىء، كلّ تعب الإنسان يذهب إلى المهملات، الأشياء الجميلة تسقط فى الأشياء القبيحة، والرّيح تكنس كلّ شىء”. وهذه العبارة المكثّفة العميقة تحتمل أمرين: الأول أنّه يقصد عمل هذه الممرّضة الإنسانيّ، وفي هذا إشارة إلى عقليّته المادّيّة، فالإنسانيّة عنده ليست من الضّرورات، فلا داعي لأن تقوم فتاة جميلة بمثل هذا العمل، فلا مردود ماديّا لعملها. والثاني: ربّما قصد بهذه العبارة نفسه، فهو يشعر أنّ كلّ حياته قد ذهبت هباء، وتحول كلّ ما هو جميل في حياته إلى قبيح، وهذه نفسيّة إنسان كان ثريّا متمتعا بالحياة ووجد نفسه عاجزا حتى عن قضاء حاجته.

بعد هذا المشهد تختم الكاتبة قصّتها بهذه العبارة المفتوحة على كلّ احتمال، وتوحي بأنّ كلامه وعقليته لا قيمة لها، تقول: ” لم يعد هناك إلا العدّ التنازليّ، الشّجرة ينهشها الخريف، والمرأة تنصرف، سمع صوت الباب الخارجى يُقفل بإحكام، ويهيل الصمت على المكان”. نعم هو العدّ التنازلي نحو نهايته أي الموت، الشّجرة كناية عن عمره الذي أوشك على الانقضاء، وهذه الكناية في لفظها تتناسب مع الجوّ الزمنيّ للقصّة، وهي من اللّطافة بمكان، أمّا قولها: المرأة تنصرف، فتشير إلى أنّها أدّت واجبها وانقضت مهمتها، وسماعه لصوت الباب الخارجيّ وهو يقفل بإحكام يدلّ على أنّه لا مخرج له وأنّه معزول عن عالم خارجيّ طالما تمتّع به، أمّا ” يهيل الصّمت” فأبلغ من قولنا: يخيّم، لأنّ الهيل هو الانصباب والسّقوط من أعلى بكثافة وشمول، فيدفن من انهال عليه فالصّمت مطبق. على أية حال أرادت الكاتبة أن تجعله يعيش وحدته بوحشة لا مؤنس فيها، يواجه مصيره المحتوم وحده دون مفرّ. فهو كما قرّرت من بداية القصّة يخاف العزلة والصّمت. وهكذا تكون القصّة ذات رسالة اجتماعيّة إنسانيّة مهمّة. جاءت اللغة مفصّلة على قدر الأحداث والتّشخيص دون زيادة أو نقصان، وجاءت في سرد متقن فيه شيء من الكناية و البيان، يتخلّله حوار لطيف، فبدت القصّة مشهدا واحدا مكثّفا ذا حدود مكانيّة وزمانيّة، واسترجاع الزّمان الماضي فيه كان إشارات تلزم في التّعريف بالشّخصيّة دون أن تكون أحداثا تلفت النّظر عن المشهد أو الفكرة المقصودة. وجاء القفل في القصّة متناغما مع الاستهلال، وكأنّ بينهما علاقة منطقيّة. وقد جاء الحوار الداخليّ للشّخصيّة الرئيسة معبّرا بدّقة ملحوظة عن جانبيها النفسيّ والعقليّ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى