قراءة سريعة في رواية بخور الغريبة ..
بخور الغريبة ... رواية ترهص بميلاد أديب كبير موهوب
إياد حسن / بهجت العبيدي
بقلم بهجت العبيدي
الرواية جاءت في ١٤٨ صفحة من القطع المتوسط، أزعم أنه لا يمكن لمتذوق الأدب أن يبدأ في قراءتها دون أن ينتهي منها كاملة.
الرواية تؤكد على امتلاك الكاتب لأدواته الفنية بشكل كبير.
جاء البناء محكما، كما جاء تطور الشخصيات منطقيا بدرجة مذهلة، فحينما أخذت أثناء القراءة على المؤلف تحميل البطلة “بهجة العمر” – وهي الراوي في القصة – ما لا يتفق ومستواها الثقافي، فإذا بالمؤلف ببراعة يفند هذا المأخذ حيث أنها وهي في لبنان – وهي إحدى محطات رحلة هجرتها الطويلة الشاقة من سوريا حتى وصولها إلى النمسا – كان لديها فرصة لالتهام الكتب، كان منها قصة للأديب الروسي مكسيم جوركي، بعدما كان قد قام عمران- زوجها المختلف عنها في الطائفة والذي كان يؤمن بحيوات متعددة للإنسان وهو طالب قسم التاريخ في كلية الآداب التي لم يكملها – كان قد قام بتعليمها للقراءة… أقول كان هذا ربما هو المأخذ الوحيد الذي توقفت عنده بعين الناقد، وجاء استطراد المؤلف في الصفحات التالية ليزيل هذه الحيرة التي يمكن أن يشعر بها القارئ المدقق.
الرواية يمكن أن تقرأ على عدد من المستويات: فلعله من الإنصاف أن أعلن عن أن قراءتي لهذه الرواية عرفتني على الحياة الاجتماعية في سوريا الحبيبة أكثر من كل الأعمال الدرامية التي يتم عرضها على الشاشة الفضية، فالرواية في إشارات سريعة تغوص تحت سطح تلك الصورة الظاهرية تخبرنا عن طبيعة العلاقات الاجتماعية في مجتمع متعدد الطوائف، وحالة التوجس الدائمة بين أتباع هذه الطوائف حتى مع من أصبحوا بحكم الزواج أفرادا في العائلة، خاصة حينما انقلب الحال في سوريا رأسا على عقب، عقب ما اصطلح على تسميته بالثورة السورية.
لم يفوِّت الأديب البارع الفرصة في كشف – من خلال سرد موضوعي يتسق مع الأحداث – ما أصاب المجتمع من انهيار وكيف أصبح لقطاع الطرق والصعاليك ولصوص التوافه من الأشياء دور كما هو الحال مع سعدو سارق الدراجات الطامع، سابقا، في زواج “بهجة العمر” وكيف كانت دناءة هؤلاء ونذالتهم بعدما تسيدوا وأصبح لهم سلطة وبالطبع انضموا لكي يشفوا غليلهم إلى الجماعات الإرهابية.
ببراعة فائقة استطاع إياد حسن مؤلف القصة أن ينقلنا بين زمنين ليسا بعيدين كثيرا عن بعضهما البعض في تلك المشاهد التي كان يسردها على لسان “بهجة العمر” بين ماض تنعم فيه الأسرة بخيرات سوريا وبين واقع التشرد والهجرة بعدما أصاب المجتمع ما أصابه.
ودعني أيها القارئ أن أعرب عن إعجابي الشديد ببناء الشخصيات والتي أراد لها المؤلف أن يكون لها وظيفة درامية تخدم العمل كما تصيب هدف المؤلف، هذا الذي يمثله عمران – وأعتقد لاختيار الاسم دلالة هنا – والذي، كما ذكرنا سابقا يؤمن بتناسخ الأرواح أو بالأحرى تعدد الحيوات، هذا الذي سمح للمؤلف أن يعرج على فلسطين الحبيبة ونكبتها، وعلى لواء الإسكندرون وكيف تحايل العثمانللي في الاستفتاء الذي جرى ليتم ضمه إلى تركيا.
الرواية تأخذنا لنعيش في عالم عصابات التهريب وكم النصب والخداع الذي يتعرض له هؤلاء الذين تلفظهم أوطانهم، كما ولم نعدم في الرواية شعاع أمل في الإنسانية تجسد في تلك المساعدات القليلة التي نلمحها هنا وهناك في هذا الجو الخانق المليء بالأزمات، هذا الجو الذي تنشط أكثر ما تنشط فيه الأخلاق الرديئة ويظهر أسوأ ما في بني البشر.
لقد قدم لنا إياد حسن المرأة البطلة القوية القادرة على إدارة الأمور مرة، وعلى القيادة مرة أخرى، رغم ما أصاب قلبها من ندبات لم تستسلم لها، ولقد استطاع أن يغوص في أعماق البطلة بشكل مذهل لينقل لنا شعورها وانفعالاتها وقوتها، ولم يتجاهل، رغم كل ذلك ضعفها وخوفها وبكاءها وحيدة بعيدا عن أعين من منحوها ثقة قيادتهم.
كان موفقا إياد حسن حينما ترك لنا النهاية مفتوحة، حيث لم تعلم بهجة العمر شيئا عن أخيها الذي شاءت الظروف القاسية أن تفرقهما في تركيا إحدى محطات رحلة الهجرة الشاقة.
إن بخور الغريبة أنشودة تدعو الجميع إلى الحفاظ على الأوطان مرة كما تدعونا للتعايش مرة أخرى… تحية لإياد حسن، وقبل الختام أطالبه بنسيان بهجة العمر وعمران وسعدو وبكري وكل شخصيات وأحداث روايته “بخور الغريبة” ليمتعنا بعمل جديد وشخوص حية أخرى وعمل فني بديع آخر.