أ. محمد العويسات ـ القدس ـ 25 يناير 2024
العنوان ( رحيل)، والمكتوب يقرأ من العنوان، والسّؤال: من الذي رحل؟ أو ما الذي رحل؟ سيكون الجواب في منتهى القصة، (أتى ليموت شوقاً عِند عتبة بابي) إنه الرجل الذي أتى من أقصى المدن، يبحث عن دارها، لم تقل المدينة وقالت المدن، لتوحي بأنّه يبحث عنها في كلّ المدن، لم يترك رسالة، مات شوقًا عند عتبة بابها، عرفت السبب، فأرادت من الرسالة كلمة وداع، إذن هو وجدها ووصل بيتها ولكنّه رحل دون لقاء أو وداع، إذن هو (سراب المنى) أو (منى من سراب) فاستغنت عن حرف الجرّ بالإضافة لتأكيد سرابية المنى، والسّراب هو نفسه في رحيل، والمعنى قد تهيّأ فنّيّا ومعنويّا منذ مطلع القصّة، فالأضواء تتسرب من يدها المفتوحة، هي نفسها تتسرب من الوقت، البكاء والصمت لا يمنعان التسرّب، وما التسرّب إلا الرحيل، والحكمة (كلّ شيء قابل للفقد) تلخّص بل تختزل كلّ الفكرة، السراب، والفقد، والرحيل منحتها الكاتبة ترادفاً دلاليّا غير بعيد في أصل اللغة، ولكنهما اجتمعا في حالة الكاتبة النفسيّة، ثم تأتي بالظلّ لفظا رابعا بمعنى قريب، فالظلّ زائل أيضا، قطعا يذهب ويحلّ محلّه الظلام، وهنا يزداد الشعور بوجع الرحيل أو الفقد، تركت من ورائها نورا ولكنه لم يكن كافيا ليهتدوا به إليها، لأنّهم عموا عن نورها، فلم تكن نورهم كما يدّعون، العمر يتسرّب في ثنايا أحاديث الأذنين المتلاشي، وهنا إشارة إلى أنّ الحديث لم يبلغ القلوب، إذن الحياة سعي في سراب. وهكذا تصل القصّة إلى ما يشبه الأسطر الشعريّة، أو هو نمط من شعر التفعيلة، تولّدت من عبارات موحية، يحسبها القارئ مفكّكة، وهي في الحقيقة مترابطة، وإن قلّت فيها أدوات الوصل، فالعبارات تترادف في المعنى والصورة، والفجوات التي تتركها متروكة لخيال القارئ، فيبدو أن الكاتبة أرادت العصف بذهن القارئ ليحلّق، والتحليق مستويات، وأجمل تحليق من يأتي على درجات من الأعلى إلى الأسفل، فمن نظرة عامّة تمسح بها النصّ، إلى التجزئة في العبارات، إلى الوقوف على الكلمات بدلالاتها الشعوريّة. وهنا تستكشف أنّ الكاتبة تتعمّد أسلوب الانتقال، تؤدي فكرة ما، وتكبت أخرى، ففي نفسها أشياء ولها مقاصد قد نقع عليها وقد لا نقع. وأرى أنّ الكاتبة هنا تجاوزت الرمزيّة بالكلمة إلى أسلوب العبارة الموحية. وربّما لا تروق هذه للقارئ البسيط أو المتعجّل، ولكنّها للمغرم بالتأمل واستكشاف شخصية الكاتب مغرية. وعلى أية حال فنّ القصّة غير موقوف على نمط معين محدود، وقد بدا لي من قراءات عدّة لقصص الأدبية هدى حجّاجي أنّها تطلب التجديد، وتسعى إلىجميلة التنويع، وتأتي بمحاولات للتعبير عن تجارب إنسانيّة محسوسة في واقعنا. وأنّ لها نهجا معينا في رسم الحالة النفسيّة لشخصيات القصّة، والجدير بالذّكر أنّها أبدعت من جعل الشخصية الواحدة شخصيتين بحديث أو حوار النّفس. وهذه فنّيّة تحسب لها..