د. جمال مصطفى رضوان
لأن الأمور تؤخذ بأسبابها، وجب التنبيه والإشارة إلى العوائق المنيعة، ضد أي تقدم علمي لدينا.
حضرات المهتمين بالتقدم العلمي، أقول لكم:
لا يمكن لكم أن تبنوا قمة هرم على أساس متصدع متهالك.
شعوبنا مصنَّفة فطريًا أنها من أذكى الشعوب والأعراق على الأرض.
لكن هذا الذكاء مُهدَر ومشتت؛ بسبب العوائق المختلفة، المنتشرة والسائدة بيننا.
ويمكن تصنيف هذه العوائق إلى:
عوائق: منطقية، ومعرفية، ونفسية، واجتماعية أخلاقية
العوائق المنطقية:
وتتمثل في افتقادنا التفكير المنطقي الصحيح، ولا أقصد بذلك أننا نفتقد المنطق العلمي الأكاديمي المتقدم، الذى يدرَّس في الجامعات، ولا حتى المنطق الأرسطي المبسط العتيق، وإنما أقصد المنطق الحياتي الصحيح.
عادة لا ينظر معظمنا للأمور من منطلق الأسباب والنتائج؛ فكل شيء وكل حدث في العالم، ما هو إلا نتيجة لظاهرة ما، وكل ظاهرة لها شروط حدوثها.
وللتبسيط، إذا قلنا: (بذرة + تربة + ماء: يساوي ظهور نبتة جديدة)، فإن ما على يمين علامة (يساوي) يمثل مجموع شروط الظاهرة، وما على يسار علامة (يساوي) هو نتيجة الظاهرة .. أما كل ما سبق، أي ما على يمين وما على يسار المعادلة، فتُسمَّى كلها: المجموعة الكلية للظاهرة..
ويمكننا أن نأخذ هذه النبتة الناشئة أو النتيجة السابقة، ونضعها ضمن مجموعة شروط جديدة لظاهرة تالية، كأن تقول:
نبتة صغيرة + ري منتظم + تسميد + مبيدات = إثمار أفضل… وهكذا.
وبالتالي، يمكن النظر إلى الحياة كلها على أنها مجموعات متسلسلة من الظواهر، المبنيّ بعضها على بعض.
إن النظرة لأحداث الحياة بوصفها ظواهر متسلسلة؛ أي ظواهر لها شروطها ونتائجها، أعني نظرة الوعي بـ “الأسباب والنتائج” لكل شيء في الحياة – هذه النظرة هي جوهر المنطق الفطري الصحيح.
وهذا هو أساس التفكير العلمي الصحيح، ولكني أفضل تسميته بـ “التفكير الحياتي الصحيح”.
وهذا التفكير لا يحتاج إلى تعلم المنطق الأكاديمي بجميع تفاصيله، وإنما يحتاج فقط إلى تنمية اتجاه لدى الناس باعتياد النظر للأمور، آخذين في الحسبان قوانين “الأسباب والنتائج”، والحصول على المعلومات الصحيحة عن ظواهر الحياة .. لا أكثر ولا أقل.
العوائق المعرفية:
قلنا إن مكونات الظاهرة:
كذا + كذا + كذا … إلخ: يساوي كيت …
فما الذي يحدد تلك العناصر في الظاهرة؟
إنه العلم أو المعرفة.. وكذلك الخبرة أيضًا.
فالمعرفة والعلم الأكاديمي يكشفان لنا العناصر التفصيلية الدقيقة داخل الظاهرة العامة؛ فمثلًا، وبالعودة إلى مثالنا السابق ذكره، حول عمليات التمثيل الضوئي للنبات، ومصير مادة النشا الناتجة … إلخ، بشأن رعاية النبتة ونموها. فهذا العلم التفصيلي يعطينا مجالات أكبر للتحكم في هذه الظاهرة وغيرها من الظواهر، على النحو الذي يفيدنا في حياتنا أعلى فائدة، ويحل الكثير من المشاكل التي كانت مستعصية على الحل بدونه. وبفضل الله، تُعدُّ العوائق المعرفية أقل العوائق تأثيرًا؛ وذلك بسبب زيادة التعليم وانتشار شبكة المعلومات الدولية “الإنترنت”.
العوائق النفسية:
وهي نوعان:
الأول، ويتمثل في الدوافع اللاشعورية أو العُقَد والمكبوتات. وهذه لا تضر طريقة تفكيرنا وحسب، بل تضر كثيرًا من جوانب حياة الإنسان كلها. والسبيل للتخلص منها هو التحسين المطّرد لمستوى المعيشة، المصحوب بتحسين الوعي وأساليب التربية لدى الآباء والأمهات والمعلمين شيئًا فشيئًا.
النوع الثاني من العوائق النفسية هو الغيبوبة الدافعية، أو التحكم اللاشعوري للدوافع الغالبة، دون وعي من الإنسان بسطوتها عليه، ومن ثم جاءت تسميتها بـ “الغيبوبة الدافعية”.
إن الدوافع نفسها شعورية، ويدركها المرء جيدًا؛ مثل دافع حب المال، أو دافع حب الاستعراض والتظاهر، أو دافع البخل، …إلخ. وهذه دوافع يعرف الفرد أنها عنده، وهي عزيزة عليه، ولكن الذي لا يدركه، أو لا ينتبه له، هو مدى سيطرتها عليه، دون انضباط منه، إلى حد أنها تلوي تفكيره وقراراته ليًّا.
لاحظ التفرقة بين النوعين: ففي النوع الأول تكون الدوافع لا شعورية وتسيطر لا شعوريًا كذلك.
أما في النوع الثاني فالدوافع شعورية، لكنها تسيطر وتسود بشكل لا شعوري. وهذه الأخيرة منتشرة بين شعوبنا، انتشار النار في الهشيم. وهي أس معظم التخلف والمشاكل في حياتنا. وعلاجها يتمثل في تعويد النشء على الوعي والانتباه دائمًا لدوافعه.
إنه شيء يبدأ من البيت والمدرسة في مراحلها الأولى، حيث يتعود الطفل أن يسأل نفسه دائمًا: لماذا أفعل كذا؟ .. ولماذا أريد كذا؟
العوائق الاجتماعية الأخلاقية:
أو بالأحرى، ما يُعرف بفقدان الوعي الاجتماعي الصحيح، حيث إن الأغلبية العظمى منا لا تعرف معنى مفهوم “المجتمع” ولا أسس قيامه. فإذا رجعنا بتفكيرنا إلى حالة البشر الافتراضية الأولى، عندما عاشوا أفرادًا في الغابات دون أي تنظيم أو قوانين، فسوف نلاحظ أن الإنسان القديم كان يلزم أن يكون هو الحامي لنفسه، وهو الزارع لنفسه، وهو الصياد لنفسه، وهو الخباز لنفسه، وهو الخياط لنفسه وهو من يبني بيته بنفسه، …الخ. وبمرور الوقت أصبح الإنسان – كفرد – ضعيفًا أمام المفترسات الأكبر والأقوى. واكتشف أنه لو اتّحد مع بني جنسه ضد الأعداء الطبيعيين، فان الكثرة تغلب الضخامة، وتغلب القوة، بل وحتى الشجاعة.
من هنا اتفق الناس على أن يتعاونوا معًا من أجل الحماية المشتركة ضد خطر الأعداء الطبيعيين، وخطر الجماعات الأخرى. وهنا، ظهر لأول مرة في حياة الإنسان، ما يسمى بـ “الالتزام تجاه القبيلة”، أو الجماعة التي ينتمي إليها.
إنه الالتزام الأول؛ المشاركة في حماية الجماعة والدفاع عنها.
بعد ذلك، اكتشف الناس أنهم إذا تعاونوا على العيش، فإن ذلك سيكون أوفر للمجهود، فظهر التخصص في المهن مع التبادل في المنتجات؛ أي أصبح هناك فلاحون فقط، ورعاة فقط، وصيادون فقط، وبناؤون، وخياطون … إلخ. وأصبح كل فرد يحصل على باقي احتياجاته بتبادل فائض إنتاجه مع فائض إنتاج شخص آخر، وهكذا أصبحت مبادئ التبادلية والاعتماد هي نواة التجارة.
وعليه، فإن التخصص في العمل وفر الوقت، وأفسح المجال لمزيد من الإتقان، إضافة إلى التقدم، بواسطة ابتكار وسائل وأساليب إنتاج أفضل.
ومن هنا ظهر الالتزام الثاني؛ وهو تعاون الأفراد على العيش، من خلال أداء الواجبات الآتية:
– واجب أن يكون للفرد عمل.
– واجب أن يتقن الفرد عمله.
– واجب أن يطور الفرد عمله.
وفى المقابل، ينعم الفرد بفرصة تبادل فائض إنتاجه – أو ماله – بالمنتجات أو الخدمات الجيدة الأخرى التي يحتاجها أو يريدها، وما كان له أن يحصل عليها لولا هذا الالتزام الثاني نحو مجتمعه.
القانون:
ومع الوقت، ظهرت ممارسات سلبية، في شكل اعتداءات من بعض الأفراد على غيرهم:
وهو إما اعتداء على الحياة أو البدن، أو على المِلك أو العِرض أو الأهل، أو اعتداء في صورة إعاقة إنسان عن السعي لعمله، أو الحيلولة دون إشباع حاجاته المشروعة عمومًا، وهو ما يسمى “الاعتداء على الحريات الأساسية”. ومن هنا اضطرت الجماعة الإنسانية، إلى إضافة قواعد أخرى جديدة:
فظهر تشريع أو التزام ثالث؛ وهو واجب عدم الاعتداء على الإنسان:
حياتِه أو بدنِه أو أهلِه أو عرضِه أو ملكِه أو حريتِه. كما ظهر مفهوما التعويضات والعقوبات.
ومن ثَمّ، تركزت الالتزامات الكبرى للإنسان أو الواجبات في ثلاثة أمور هي:
أولًا: واجب تعاون الفرد على حماية الجماعة، مقابل حقه في أن تكفل الجماعة حمايته، وأن تضمن أمنه.
ثانيًا: واجب تعاون الفرد على العيش باتخاذ عمل وإتقانه وتطويره، نظير حقه في كسب مال يجنيه؛ لتلبية باقي احتياجاته، وتحسين حياته.
ثالثًا: واجب عدم تعدي الفرد على الآخرين، في مقابل حق أو ضمان الجماعة/الدولة بحمايته من التعرض لأي نوع من الاعتداء.
ما سبق تم بلورته عصريًا فيما يُعرف بـ “الواجبات والحقوق في العقد الاجتماعي”.
هذه هي القصة كما يجب أن نعيها، وهذا الوعي يجعلنا أكثر إيجابية في المجتمع، وأكثر حرصًا على إنجاحه.
وعلى سبيل المثال، مَن منا ونحن ننزل من الحافلة انتبه أو فكر في أن هذا موقف اجتماعي، قد يتم بشكل مثالي، .. أو بشكل عشوائي؟
الشكل المثالي – الحضاري – هو أن ينزل الركاب من المقدمة أولًا، يليهم مَن خلفهم، وهكذا حتى آخر راكب في الحافلة، وفي الوقت نفسه يكون الصعود إلى الحافلة من بابها الخلفي بأسلوب متحضر، وغير همجي أو عشوائي.
مَن منا وهو واقف في ممر أو زقاق أو سوق مزدحم، لاحظ أنه بوقوفه هكذا قد يعيق مرور الآخرين؟
طبعًا لم يخطر ببالنا لا هذا ولا ذاك. وليس هذا لنقص في الذكاء، ولكن لأننا لم نتعود الانتباه لحق المجتمع في الطريق، وكيفية تأديته بأفضل طريقة.. لم يعلمنا أحد ذلك.
وربما كان الاقتراح مفيدًا بأن يتم التدريس والتوعية بالأعمدة الكبرى التي ذُكرت آنفًا، من خلال المدارس، والجامعات، ووسائل الإعلام، ومراكز الفكر، وتتمثل في الآتي:
أولًا، تعزيز طريقة التفكير العلمية البسيطة بالنظر للحياة كظواهر: أسباب ونتائج.
ثانيًا، تعلُّم الانتباه للدوافع المسيطرة علينا، حتى لا نقع تحت سطوتها لا شعوريًا، وهي لن تُفسد تفكيرنا فحسب، بل ستُفسِد علينا الحياة برمتها.
ثالثًا، ترسيخ مفهوم المجتمع وقصة نشأته من الحالة البشرية الافتراضية الأولى، والالتزامات الثلاثة الكبرى .. وكذلك الحقوق الثلاثة الكبرى، كما أوضحت آنفًا.
فإذا نجحنا في ذلك فسوف يكون لدينا مواطنٌ واعٍ فعالٌ وقادر على صنع دولة غنية متقدمة، ولا يقل قدرة عن مُواطن دول العالم الأول.