قصة قصيرة من الأدب الإنجليزي بعنوان: زوجة الأب للأديبة: مرجريت كنيدي الترجمة بقلم الأستاذ: محمود عزت عرفة نشرت في العدد 473 من مجلة الرسالة بتاريخ: 27 – 07 – 1942
عزيزتي هيلين. . .
لا ريب أنك ترتقبين البريد في لهفة كل يوم، على أمل أن يحمل إليك من أبيك خطاباً؛ بل إني لأكاد أتخيلك وأنت تشيعين الساعيَ بنظرة ملؤها الدهشة والألم معاً، في كل مرة يمضي فيها دون أن يترك لك هذا الخطاب المنشود. ولعل دهشتك ستكون أبلغ حينما تتلقِّين هذه الرسالة من (زوجة أبيك). وإني لأستطيع أن أسمعك وأنت تقولين لصديقتك إيدنا:
– أبلغ من تأثير هذه المرأة عليه ألا يخاطبني إلا عن طريقها؟! على أني ألتمس إليك أن تبادري بتدارك هذا الوهم الذي تقعين فيه؛ فلم يسألني أبوك أن أكتب إليك، بل إنه ليجهل أني بعثت إليك بهذا الخطاب؛ ولعله لو عرف لغضب. وهو في الحقيقة لا يكاد يذكر اسمك أمامي، من يوم أن عدنا إلى المنزل فألفيناك قد هجرته غضبى. فكل ما أفعله إنما هو بإرادتي ومن محض تفكيري. . . وما أشك في غريزة حب الاستطلاع ستدفعك إلى قراءة كتابي حتى آخر كلمة فيه؛ فإن من غير المستساغ أن ترسل زوجة أب بخطاب مطول صريح اللهجة إلى ابنة زوجها الوحيدة، ولما تمض على نهاية رحلة الزواج أيام!
ولكن، ماذا أنا قائلة لك؟ وكيف أوضح موقفي بحيث أستطيع – وحسبي هذا – ألا أزيد الأمور بيني وبينك تعقيداً؟
اعلمي أولاً أني لن أتوجه إليك بأدنى لائمة؛ بل إني لأقدر – بعطف بالغ – هذه الاحساسات التي دفعت بك إلى الرحيل، وأدرك أنك تنظرين إلى العلاقة بين زوجة أب وفتاة متحررة في التاسعة عشرة من عمرها، كأمر يصعب الاحتفاظ به؛ ولو كنت في موضعك لما وسعني إلا أن أتمرد مثلك، ولكن ليس بهذا الأسلوب الذي اصطنعت!
واسمحي لي أن أذكرك – وملئ نفسي الأسى البالغ والأسف المرير – بأنك قد تصرفت تصرفاً انطوى على أبلغ القسوة وأشد الإهانة لي ولأبيك. وصدقيني حين أقول لك إني أشكو مما أصابني شخصياً؛ فقد كان عملك لطمةً موجهة إليَّ، ولكنها كانت أشد ما يكون وقعاً على والدك المسكين. . . لقد أمضه الألم وأمرضه الحزن حتى لاذ بالصمت؛ وبالتالي وجدتني متألمة لألمه. . .
واعترف لي بأني لم أكن أتوقع منك تصرفاً فجائياً مؤلماً كهذا. ففي مرحلة تعارفنا الأولى كانت تربطنا مودة صادقة؛ ولما بدا احتمال اتصالنا برباط أوثق عن طريق أبيك، استحال إخلاصك وثقتك السابقان إلى نفور مزاجه التأدب والتحفظ؛ وكان ذلك أمراً طبيعياً. . .
ولقد بدا لي أني أستطيع متى أظلنا سقف بيت واحد، أن أجعلك تفهمين مقصدي وحقيقة شعوري.
كنت ولا أزال أحبك كثيراً؛ أحبك لشخصك ثم لأنك ابنة (أبيك)! ولقد شجعني تصرفك قبل الخطبة وبعدها على الأمل في أن أحل وإياك المشكلة التي طالما سببت المتاعب للأسر جميعاً: مشكلة العلاقة بين الأبناء وزوجات الأب. وعلى هذا الأمل قضيت (شهر العسل) في وافر من الغبطة والسعادة.
ولكن، أي استقبال هذا الذي أعددته لنا!
ليتك تعلمين يا هيلين كم كان أبوك يشتاق إلى لقائك طوال مدة رحلتنا!
لم نرك في انتظارنا على المحطة كما كنا نتوقع. قلنا: حسناً، إنك في المنزل بلا ريب تترقبين عودتنا؛ وقد أعددت لنا عشاء شهياً ينسينا مشقة سفرنا الطويل. ولما اقتربنا تفرس أبوك في نوافذ المنزل علَّهُ يراك؛ ولكنا لم نلمح غير السجوف المرخاة في عناية، وأطراف هذه الستائر الفرنسية التي شذبتها يداك منذ عام. واخترق والدك الممر وثباً. ثم فتح الباب بمفتاحه الخاص وهو يهتف في قلق:
هيلين، هيلين. . . أين أنت؟!. . .
وانفتح أحد الأبواب، وأطلت منه الخادم وعلى وجهها سمات الذعر؛ فبادرها بالسؤال: أين مس هيلين؟. . .
وكانت الحقيقة أروع من أن تعترف بها الفتاة، فاضطربت وهي تغمغم بأنها لا تَدري. . . ثم انزوت عن وجهه سريعاً.
أسرع أبوك إلى غرفتك (الاستديو) وفتح بابها؛ فدله المنظر الذي أماه على ما حدث بأتم وضوح. كان كل ما يخصك أو يهمك في الحجرة قد اختفى، فلم يكن ينقصه – ليعرف ما صنعت – أن يقرأ هذه الرقعة التي تركتها على رف الموقد بعد أن خططت عليها كلمتك القصيرة:
(لقد انتقلت عن هذا البيت لأقيم مع صديقتي إيدنا كوري) ومع ذلك فقد أطال أبوك التحديق في هذه الوريقة وهو يوليني ظهره، ثم استدار إليَّ بعد حين فالتقت أعيننا وأعتقد أننا تبادلنا في هذه اللحظة كل ما نستطيع التعبير عنه بالكلام.
وأخيراً مس ذراعي بيده مترفقاً وهو يقول: تستطيعين أن تهيئي طعامنا الآن. . . كان يتكلف الهدوء ويتظاهر بعدم المبالاة؛ فعجلت بالانصراف من أمامه قبل أن يتبين في وجهي أني أدرك حقيقة شعوره. وعندما التقينا بعد ذلك على مائدة الطعام كان يتصرف كما لو أن شيئاً هاماً لم يحدث! ولقد جاريته في رغبته؛ ولم يكن يتسنى إلا لمثلي ومثلك ممن يعرف خبايا نفسه أن يلحظ هذا الألم الذي يعصف في صدره. وإني لواثقة من أن أباك لن يلتمس إليك العودة بحال؛ وأنت الذي ورثت كبرياءه تدركين لمَ لا يفعل ذلك. أما من جهتي، فلن أطلب إليك شيئاً كهذا لعلمي أن أيسر ملتمس مني جوابه الرفض. وإنما سأخاطبك في وضوح. وسأحاول أن أبين لك أن زوجة الأب على رغم سمعتها السيئة تستطيع أن تكون أحياناً صادقة الرغبة في تفهم وجهة نظر ابنة زوجها، بل هي قد تقبل التضحية البالغة من جانبها في سبيل أن تخيم السعادة على الجميع. وما خطابي هذا إلا دليل ملموس على ذلك. قد لا تفهم فتاة مثلك لماذا يرغب أبوها في الزواج مرة أخرى؛ ويبدو لها طلب أبيها لزوجة جديدة أمراً شاذاً غريباً كما لو راحت هي تلتمس لنفسها أُماً أخرى! وهي ترى أن كائناً من كان لا يستطيع أن يملأ الفراغ الذي خلفته أمها؛ وبالتالي لا تكاد تصدق بوجود المرأة التي تملأ من أبيها فراغ الزوجة. ومن المشاهد أن تطفُّل امرأة أخرى – بعد ذهاب الأولى – من الأمور غير المرغوب فيها؛ حتى ولو كانت الأولى قد قصرت في أداء مهمتها كزوجة أو أم. فكيف يكون الحال مع امرأة فضلى كأمك جديرة بكل حب من زوجها وطفلتها؟
لا ريب أن موضعها سيبقى شاغراً إلى الأبد!. . . لست أطالبك بأن تنظري إلى المسألة كما أنظر إليها، أو تضعي في ذهنك أن أباك هو أول من أحببت، وأنه عندما سألني الاقتران به أحسست بسعادة لم أكن أحلم بها. فستقولين – وأنت محقة – إن هذه أمور لا تعنيك في شيء؛ وعليه فلنجعل الأساس المشترك بيننا سعادة والدك، فعند هذه النقطة قد يلتقي سهمانا. . .
ولو أنك فكرت في الأمر قليلاً لوجدت أن مزايا والدتك وفضائلها، هي التي لجأت أباك إلى التزوج مرة أخرى. وقد يبدو لك هذا الكلام متناقضاً أو قائماً على الوهم؛ ولكنه في الواقع ينطوي على نتيجة طبيعية يفضي إليها منطق مستقيم. فإن الزواج إذا انفصمت عروته بالموت يترك من الفراغ والوحشة بقدر ما حقق من سعادة ونعيم. . .
وأنت – نفسك – لن تستطيعي الادعاء بأن حبك لوالدك بعد وفاة أمك، قد شغل أكثر من ركن صغير، وصغير جداً، من هذا الفراغ الذي خلفته وفاتها! وكذلك الحال مع الأب، فما حبه لطفلته إلا تتمة حبه لزوجه. والعلاقة بين الأب وابنته تختلف – كما وكيفاً – عن علاقة الزوج بزوجه. وأنا لست أدعي في لحظة ما أني قد ملأت هذا الفراغ تماماً؛ ولكني أردد صادقة أني اكتسبت محبة أبيك وثقته، وأني أسعدته بحبي له سعادة لم يكن لينالها – على الأقل – بغير حب المرأة. . .
وما أخالك تنكرين أنه قد اختارني بمحض إرادته؛ وليس لمجرد دافع يسير، بل لحاجة ماسة إلى تجديد هذه العلاقة الوثيقة التي افتقدها بموت والدتك. فإذا أنت أدنتِني فقد أدنتِ أباك، وبحكمك هذا يبدو مبلغ قصورك في إدراك حقيقة الطبائع البشرية.
وقد تبدو نظريتك معقولة من فتاة غير متزوجة تفيض نفسها بالوفاء الخالص والطيبة الساذجة، ولكن لن يقاسمك هذه النظرة أي رجل ممن خبر الحياة وعرفها على حقيقتها.
والآن. . . دعيني أتقدمْ بك خطوة أخرى:
لا بد لك أن تسلمي – إن عاجلاً أو آجلاً – بأن أباك هو صاحب الحق المطلق في تقدير قيمة هذا الزواج الأخير الذي ارتبط به؛ ولكنك قد تحتجين بأن هذا التسليم لن يغير شيئاً من شعورك نحوي. ولعلي لا أكون مخطئة إذا قلت إنك قد قلبت هذه المسألة من جميع وجوهها مع صديقتك (إيدنا) فرثت لحالك وأقرتك على موقفك. وإني لأستطيع – متى شئت – أن أسرد عليك كل ما دار بينكما من حديث؛ أو بالأحرى كل ما أقمته من (حجة) وعقبتْ عليه من (تأييد). وأنا واثقة من أنك قد قلت الشيء الكثير مما كنت أقوله لو كنت في مثل هذا الموقف. كنت أقول إني أطلب حياة مستقلة لا تعترض سبيلي فيها امرأة أخرى كائنة من كانت؛ وكنت أذكر مبلغ حنيني إلى هذه المعيشة الحرة التي أنفقت فيها عاميَّ الأخيرين، أغدو وأروح في حرية تامة، وأختار أصدقائي وفق ما أشتهي، وأدبر شئون بيتي بأسلوبي الخاص؛ مستمتعةً بهوايتي، أرسم حيث أريد ومتى أشاء؛ أقضي أوقات فراغي في خمول إن أحببت، أو أدعو أصدقائي إلى تناول الشاي والرقص والحفلات التمثيلية الخاصة، آخذة من كل متعة بنصيب دون أن أجد من يعترض سبيلي أو يقول كلا. . . لست أرى لك ذلك يا عزيزتي.
كنت أرفض رفضاً باتاً كل تدخل – أو تهديد بالتدخل – بيني وبين هذه الحرية النفسية؛ وكنت أرى بالبداهة أن دخول زوجة الأب المنزل إنما هو قضاء عاجل محتوم على كل هذه المناعم والملاذ. . .
ألم أصور لك نفسك في جلاء؟. . . ألم تقولي كل هذا لصديقتك إيدنا فدعتك إلى هجر بيت أبيك والإقامة معها: ترسمين بـ (الباستيل) كما تشتهين، وتكتب هي القصص القصيرة على طريقة (موبسان)؛ فتقضيان حياة بويهمية رائعة؟. . . لست متيقنة من قدرتي على إقناعك بالخطأ الذي بنيت عليه هذا القرار المفاجئ بالرحيل عنّا، وهذا مما يزيدني شفقة عليك وعطفاً. قلت لك إنك أخطأت في الحكم علي، وسأوضح لك ذلك الآن فإن مما يؤلمني كثيراً أنك لم تقدري صعوبة تلك المهمة التي تكلفت بها، ولم تعامليني معاملة تدل على تقديرك لمشاعر المرأة التي تخيرها أبوك زوجة له. كنت قد وطنت نفسي – متى أظلني وإياك سقف بيت واحد – على أن أترك الأمور تسير في مجراها ما وسعني ذلك؛ فلا أتعرض لك في شيء ولا أحول بينك وبين تحقيق رغبة. . . كنت قد وطدت عزيمتي على أن أعاملك كما أعامل أختاً لي صغيرة، على أن أتخلى – مع ذلك – عن حق الأخت الكبرى في التوجيه وإسداء النصح، ما لم تطلبي إليَّ شيئاً من هذا. بل كان يرضيني أن تقومي على شئون المنزل دوني إذا سرك هذا وأرضي أباك؛ وأنت تعلمين مبلغ تضحيتي في ذلك، لأنك تدركين كما أدرك أباك كبرياء المرأة وشدة اعتزازها بالسيطرة على مرافق بيتها. لم أكن أريد أن أنتزع شيئاً من اختصاصاتك إلا ما أوجبه لي حق الزوجية، من ألا تحتفظي بأبيك خالصاً لك من دوني! ولقد ساغ لي هذا التفكير لأني أقرب في نشأتي من أبناء جيلك مني إلى أهل الجيل الماضي؛ فأنا متوسطة بين الجيلين، ولست متقدمة في السن كما قد تتصورين يا عزيزتي هيلين. ولقد ربِّيت منذ طفولتي على هذه الحرية التي تذوَّقتِ أنت حلاوتها، ولكني تخليت عن كل ذلك لأبيك وأنا راضية مختارة لأن ثمة في الحياة ما هو أثمن من الحرية؛ وإني لأرجو لك أن تتخليْ مثلي عن حريتك، في اليوم الذي يلقاك من يستأهل منك هذه التضحية. . .
شكواي أولاً وأخيراً أنك حكمت عليّ قبل التجربة، وجعلتني هدفاً لهذا التحامل الذي مُنيتْ به (زوجات الآباء) منذ بدأت الحياة!
وأنا لا أود أن تطول بنا هذه الحال، وأعترف لك بأن حجرة رسمك المهجورة ومخدعك الخالي قد أوحشا بعدك وحشة لا يسعني التعبير عنها. أما تأثير ذلك على أبيك فإني أترك لك تقديره.
وإذا كان يهمك أن تتأكدي من مبلغ صدقي وصراحتي في كل ما ذكرته لك، فما أشك في أنك تمنحيني الفرصة التي أدلل لك فيها على ذلك؛ وكل ما أتمناه أن تنزعي ثوب (التحامل) وتعودي – ولو إلى فترة محدودة – حتى يتبين لك كل شيء. ومن المحتمل أنك لن تتأثري كثيراً بما أعرضه عليك من صداقتي، أو لعلك تعدين من الحماقة أن تأمل زوجة الأب – الفظة القاسية – احتلال ركن من قلب ابنة زوجها؛ وقد يكون كل ما عرضته عليك أموراً سلبية: لن أصنع كذا. . . لن أقول كذا. . . على أن أدلتي الإيجابية كلها تلتقي عند أبيك؛ فكلتانا – لو علمت – تعيش له أكثر مما تعيش لنفسها. وأنا أعترف لك بأني لا أستطيع أن أملأ فراغ غرفتيك، مهما يكن ما بذلته أو سأبذله.
وثمة أمر آخر يزعجني؛ فمنذ عودتنا لم تمس يد حجرتيك بتهوية أو تنظيف، إذ لم أُردْ أن يلمس أشياءَك أحد سواك. وتركُ الحجرتين بهذه الحال إلى مدًى طويل مما لا يرضي ربَّة بيت. . . ولكنك تريْن من هذا مبلغ جهادي في سبيل الاحتفاظ بأشيائك على حالها.
وقد يكون من غرائب المصادفة، إن لم يكن من الفأل السيء، أن أخط اسمي الجديد لأول مرة (تعني لقب الزوجية) في ذيل مثل هذا الخطاب الذي تُلْجِئني إلى كتابته ظروف كتلك التي نحن فيها. . . وتقبلي تحيات صديقتك المخلصة: (مرجريت كنيدي)
إ . ب .