قصة قصيرة من الأدب العربي بعنوان: كن… كان للأديب: يحيى حقي
خرج حسين من الجو المكتوم المفعم بالأدخنة والضجيج، وانطلق إلى الطريق. فوقه سماء القاهرة تكاد الروح ترشفها من فرح صفائها. تناثرت فيها نجوم لامعة وأخرى خابية، لا يكاد النظر يستوعبها في مواقعها، حتى تجد الأذن أن هذه النجوم المبعثرة مختلفات الألوان ينظمها نغم حلو جميل. لكل لون منها نصيب في إيقاعه، ولكنه نغم خاف تشعر به الأذن ولا تتبيّنهُ، كأنما هي أيضًا عين ترى ولا تسمع. وبدأ حسين سيره إلى “شبرا” وهو حين يشعر بالليل يحجبه عن الأنظار، يلذ له أن يحتضن أفكاره ويختلي بها، فيسرح ذهنه، وتعود إليه ذكريات قديمة. عيناه تتكلمان تارة بالسرور وتارة بالحزن. ويهتز رأسه مرة بالعجب ومرة بالحسرة. وقد يتمتم باسمًا. (…)
آه! إنه الليلة آسف على حياته، نادم من جديد. أما يأتي اليوم الذي يتاح له فيه أن ينسى كيف ألقى بنفسه في مدرسة المعلمين وهو كاره لها؟ وكيف نكص عن الزواج بجارته آمال! تلك الفتاة التي خلبت لبه وسحرته، ورضي بالزواج من إحسان. خشي الأولى لأنها مستبدة لعوب فاتنة، وقنع بالثانية لا عن حب، بل قيامًا بواجب، فهي ابنة عمه. اطمأن لها لأنها ربة بيت، هادئة، معتكفة، فماذا فعلت بنفسك يا حسين؟ أدرت ظهرك للنشوة والمتعة، واللذة المتجددة، والحياة المليئة بالعواطف، وآثرت حياة راكدة كالمستنقع. سرعان ما مل إحسان، وسرعان ما انقلبت هذه الفتاة الممشوقة القد إلى امرأة بدينة خشنة اليدين. لم يرها مرة تستقبله عند عودته وقد سرحت شعرها أو اعتنت بزينتها. تبدو له الآن حياته سلسلة من أخطاء وسوء حظ. إن كان في الحياة مهنة يمقتها أشد المقت فهي مهنة التدريس. هو عامل فرض عليه أن يبني الأساس ولا يتعداه، ثم يجيء آخرون يتممون البناء ويتمتعون به. أي لذة في عمل لا تتجسم أمامك نتائجه، فتمنح النفس جزاءها من الرضا والغبطة!؟
ما فائدة التوفر على تعهد فرخ الطيور وتغذيته، حتى إذا نما ريشه أفلت من يدك وطار؟ العالم كله يتحرك إلى الأمام، والمدرس ثابت في مكانه! وإن تلفّتَ فإلى الماضي يتلفت. ما فائدة تعليم هؤلاء الصبية، وهو واثق بعجزه عن إسعادهم؟ فالحياة مليئة بالشراك والمصائد، محفوفة بالمظالم والآلام والأحزان. سيخوضون غمار معركة من أشد المعارك تطاحنًا وهَولاً، على حين أنه لم يسلحهم إلاّ بقشور من العلوم النظرية. وشقشقة لسان إن لم تكن تضر فهي لا تنفع. كم كان يود أن يكون محاميًا. إنه يحس في نفسه المقدرة على الفهم واستخلاص المبادئ وسلامة المنطق. وهذه مواهب لا تفيده في صناعة التعليم. ولكنها خليقة بأن تتقدم به إلى الصفوف الأولى، لو أنه مارس المحاماة. ودّ حسين لو أنه استطاع أن يدافع يومًا عن مظلوم، أو يرد حقًّا إلى صاحبه، ولكنه عاجز. فمما يكرب نفسه أنه يرى المظالم تتزايد أمامه وتتلاحق، ولا أمل له في أن يرى نهايتها، أو يرى عالمًا تسوده العدالة. هذا تفسير ما في نظرته من حزن عميق مختلط بغيظ مكتوم. ماذا يفعل؟ إنه يقف طول النهار ينبح أمام تلاميذ كالقرود يلهون ويعبثون، حتى يجف حلقه ويضطرب قلبه. هل نسي أن الطبيب قال له إن قلبك ضعيف يُخشى عليه من كثرة الإجهاد؟
وعندئذ تريث حسين في سيره، ووضع يده على مكان قلبه وتأوه… إنه يحس كأن إبرة تغرز فيه… لقد ساءت حالته الليلة. إنه الإجهاد الذي يخشاه.. فمتى تأتي الإجازة؟ متى؟
كان قد ترك الطريق الرئيسي وانعرج إلى درب ضيق ينتهي بالمزارع. سكون شامل ومنازل نائمة.
حدثته نفسه:
– لو أستطيع أن أرتد القهقري عشر سنوات. عشر سنوات وحسب، ولو ضحيت من أجل ذلك بعشر سنوات مثلها من مستقبل عمري. سنة بسنة.
لم يكد يسير بضع خطوات بعد هذا الخاطر، حتى خيل إليه أنه يسمع زحيرًا شديدًا يتلاحق من ورائه. هل يجري في إثره أحد؟ أجهد أذنيه فلم يسمع وقع أقدام. ومع ذلك استمر هذا الزحير يسرع إليه ويدنو منه. طمأن نفسه يقول لها: لعله وهم وخيال. فالليل عالم مجهول مليء بأصوات غريبة لا نتبينها، ثم سار قليلاً فإذا يد تلمس كتفه، والزحير يكاد يشق صماخ أذنيه. سمع حسين وقرأ أن شعر الرأس يقف عند الذعر، ولم يكن يصدق، في تلك اللحظة أحس كأن يدًا قاسية جمعت شعره في قبضتها وشدته شدًّا قويًّا يكاد يتمزق منه جلد رأسه. وشعر حسين بأن اليد التي وقعت على كتفه لوح من الثلج. فقد جمد لها قلبه، وإن يكن جبينه قد التهب لها وتصبب عرقًا.
التفت حسين مذعورًا، فوجد وراءه رجلاً نحيفًا هو إلى القصر أدنى منه إلى الطول. يرتدي ثوبًا أسود كثياب التشريفات، من طراز يرجع إلى عهد غابر، ذَكَّر حسينًا بصورة قديمة لأحد جدوده.. والغريب أن هذا الثوب كان فضفاضًا كأنما فصل لرجل أطول منه وأشد امتلاء؛ فقد رأى حسين أمامه رقبة نحيلة تائهة في ياقة مُنشّاةٍ واسعة… يريد ذقنه أن يعتمد على حافتها فيشنقها فرط ارتفاعها… لم ير له يدين، وخيل إليه أن الكمّين فارغان، ليس فيهما ذراعان. حدق بنظره في تقاطيع هذا الغريب. ورأى – أو خيل إليه أنه رأى – وجهًا إنسانيًّا ذا عينين وأنف وأذنين… ولكن عجبًا لماذا لا تستقر نظرته على هذا الوجه؟ لم تنطبع له صورة في ذهنه، كأنما وجهه هُوّةٌ لولبية، أو سراديب ملتوية أو صورة فوتوغرافية مهزوزة.
أشاح حسين بوجهه من الرعب، ومن تلك الرائحة المنتنة القاسية التي غمرت وجهه من فم هذا الغريب. وحين بدأ الرجل يكلّمهُ، إذا بصوتهِ صوتُ طفل وديع، وإذا بهذا الصوتِ الحنون وحده يراخي قبضة اليد التي كانت تجذب شعره فيعود إلى رقاده. وخامر قلبه شيء من الطمأنينة لم يدرِ سببها. قال له الرجل:
– لا مؤاخذة ياسي حسين… خشيت أن تغير فكرك قبل أن أستطيع اللحاق بك. كنت مشغولاً جدًّا في قصر العيني وفي مستشفى الحميات.. فأنا – كما ترى – مجهد حقًّا ولي عمل شاق لا ينتهي. سمعتك تتبرع بعشر سنوات من عمرك لقاء أن تعود القهقرى عشر سنوات مثلها، وأنا في ضيق- علم الله – ومحتاج أشد الاحتياج إلى يوم، فكيف بعشر سنوات مرة واحدة. لا شك في أنك سعيد في حياتك. فلم أر قبلك أحدًا يتعلق بالدنيا تعلقك بها… لا. لا. لا أريدها لنفسي، بل لغيري.. دعني أتذكر. نعم عندي أب قارب الرحيل، وقد قدر له أن يرى ابنه الوحيد الشاب يموت قبله. سأعطي الابن شيئًا من هبتك حتى أجنب أباه تجرع غصة الألم. وهذا الشاب لو انتقل عن هذه الدنيا لحرم أولاده من ميراث جدهم. سأعطيه سنة حتى ينتهي أجل أبيه. وهذا الفتى أحب فتاة غاية الحب، سيموت قبل الزفاف، وليس أشهى عليّ من أن أمتعه بها ولو شهرًا واحدًا. فها أنت ذا ترى أن هبتك السخية تكفي لبعض هذه الأعمال الخيرية. لهذا أسرعت إليك.
خفّت الأبخرة المنتنة شيئًا فشيئًا، واستطاع حسين أن يقارب وجه هذا الغريب، بل بلغ به الاطمئنان أن ضحك في وجهه وقال:
– مهلاً! مهلاً! هذه هبة كما قلت، ولكنها – يا عزيزي الأستاذ – ليست بدون مقابل… فهل أنت قادر على أن تردني القهقري عشر سنوات؟
انتبه حسين إلى أن جوا من الطيب والرائحة الزكية تسطع من مخاطبه، وتمنى لو استطاع أن يقترب منه أو يضع ذراعه في ذراعه.
أجابه الرجل وهو يبتسم:
– ألم تقرأ في القرآن الكريم ادعوني أستجب لكم؟ إنني عبد من عباد الله لا أعلم أن أحدًا قد كلف بمهمة شاقة كمهمتي… وأنا مقبل على أدائها بإخلاص وبكل قوتي.. حرصًا على رضا مولاي… وإني لحسن الظن بكرمه ومَنّه، لم ألتمس منه طلبًا من قبل، فلا أظن أنه يخيب رجائي لو سألته هذه المرة. كن واثقًا بأنني أحقق لك ما ترجوه…
ودّ حسين لو أنه تردد قليلاً، أو سأله مهلة ليفكر من جديد، ولكنه خجل من رقة محدثه، فوجد نفسه يقول له وهو ذاهل:
– لا مانع عندي…
– يا لك من سخي شجاع…
وعندئذ أخرج حسين ساعته ونظر إليها فأوقفه الرجل قائلاً:
– لا. لا. إنني لا أعرف حساب زمنكم هذا…
ثم التفت إلى السماء ونظر إلى النجوم وقال:
– سيكون بدء تنفيذ اتفاقنا في تمام منتصف الليل.
قال له حسين:
– اتفقنا…
أجابه الرجل:
– هذا القول لا يكفيني… إنني أريد منك أن تهبني السنوات العشر بالصيغة الشرعية. فقل معي:
“أهبك عشر سنوات من عمري طائعًا مختارًا، وأنا في تمام عقلي وإرادتي، على أن أعود القهقرى عشر سنوات مثلها”.
كرر حسين وراءه الصيغة كلمة كلمة… فإذا بالرجل يربت كتفه ويقول:
– إنك أكبر المحسنين لو علمت. وليس أحد أولى منك بأن يقام له تمثال.
ثم ابتعد عنه، يتحرك جسده، ولا يرى حسين على أي قدمين يسير.
واستمرحسين في طريقه وهو ثمل لا يدري هل يغتبط بفعلته أم يندم عليها. همس لنفسه يقول: “إنك أسعد إنسان على وجه الأرض! ستقوم برحلة لم تتسنّ لأحدٍ من قبلك”.
وفجأة وقف حائرًا وقال:
– ولكني نسيت أن أسأله: هل سأعود القهقرى عشر سنوات محتفظًا بما فيّ من تجارب وأفكار ومن خبرة ومزاج؟… ليتني أدخلت هذا الشرط في اتفاقنا!
عشر سنوات إلى الوراء! سيغير حياته كلها… سينعم بما حرم نفسه منه… سيتجنب كل أخطائه. تألق وجهه وأسرعت خطواته، وأحس أن نشوة غريبة تهز عِطْفَيْه.. فإذا به يقف من جديد وقد ساوره شيء من القلق:
– ليتني سألته كم يبقى لي من العمر بعد تبرعي بعشر سنوات؟
كان قد وصل إلى داره وفتح باب الشقة، فإذا رائحة المرحاض تزكم أنفه مختلطة بعفونة قشور البصل المتخلف في صفيحة القمامة.
اعتاد حسين إذا عاد في مثل هذه الساعة أن يجد شيئًا من الطعام على المائدة فيتناوله باردًا وهو صامت وزوجته نائمة لا تتحرك… ولكنه في هذه المرة لم يكد يدخل حتى سمع صوت إحسان تنادي:
– من؟ حسين؟
وقامت إليه محمرة العينين مشعثة الشعر تقول:
– عجبًا! ما كدت تدخل حتى طار النوم من عيني وانتبهت مذعورة لا أدري ماذا بي.
جلست معه على المائدة وسخنت له طعامًا، وحدثته عن بعض توافه يومها، ومع ذلك كان كلامها ينزل بردًا وسلامًا على قلبه. هي زوجه، وليس في حياتها أحد سواه. حبيسة داره، حياتها كلها وقف عليه وعلى أولاده. كثيرًا ما اشتكت وثارت وضجت، ولكنه لم يسمعها تؤلمه بكلمة تجرح قلبه. حنّ لها حسين وضاحكها، بل عرض عليها أن يسهرا معًا ويتسليا بلعب الكونكان، وهي لعبة الورق الوحيدة التي استطاع أن يعلمها لإحسان.
واستمر اللعب زمنًا طويلاً، وتناول حسين ورقة يربح بها الدور فرفع يده مسرورًا يقول:
– كُنْ…
ولكنه لم يستطع أن يتمها “كونكان”! كان الليل قد انتصف… … …
***
دخل عليه وكيل المكتب يقول:
– السمسار منتظر يريد أجره.
أطرق حسين برأسه ذليلاً. لقد انحدرت به الحال إلى أن أطلق بعض السماسرة يتصيدون له الزبائن من على القهاوي. لم يبلغ إيراده في هذا الشهر عشرين جنيهًا، وإنه والله ليخشى أن يعود إلى داره، فقد طالبته آمال بثوب جديد لا يقدر عليه. من كان يظن أن فتنة هذه الفتاة ستزول سريعًا؟ عاشرها وتمتع بقربها، ولكنه يشعر بأنه ظل طول عمره غريبًا عنها. لا يدري ما يجول برأسها. يريد أن يخضعها فلا تخضع ويأمرها فتنفلت منه طليقة. ثم كم تؤذيه ويؤذيها بهذه الكلمات القاسية الجارحة التي يتبادلانها كثيرًا. ثم – وهنا العجب – يضُمُّهما الفراش فينسيان كل شيء في ضمة الجسد للجسد. وتعود العداوة والبغضاء في الصباح. طبيعة حيوانية يتعامى الإنسان عنها ويتعالى، وهو عاجز في قبضتها، غريق، في أحضانها: ترى أين إحسان الآن؟ ألم يكن أولى بها – وهي ابنة عمه – من زوجها العامي الذي لا يحسن معاملتها؟ ألم تكن راحته وسعادته في الزواج منها؟ ولكنه تكبر وخان، وجرى إلى آمال كالأحمق…
وسار حسين على مهل إلى داره… المحاماة؟ هي مهنة مليئة بالكذب والخداع. كم يتألم ضميره وهو يصرخ أمام القاضي بكلام يعلم من قرارة نفسه أنه كذب وتلفيق. كل ذلك لقاء دراهم معدودة لا تسمن ولا تغني من جوع.
آه! آه! إنه أضاع حياته. وما فائدة جهاده في المحاماة والناس كالوحوش الضارية والذئاب المفترسة؟ إن اكتسى وجه الظالم بغلالة سوداء بغيضة، فما أجدر المظلوم الأنوف بأن يرفع رأسه ويتجلى وجهه أبيض وضيئًا. ولكن حسين يتطلع إلى وجوه زبائنه فلا يتبين الظالم من المظلوم. كل منهم تنطوي نفسه على الغلّ والحقد. لا يكتفي الظالم بجبروته، بل يهبط به جبنه إلى الدس والكيد والتلفيق… وعمي المظلوم عن نبل المطالبة بحقّه وثوابها، وامتلأت نفسه سما. لا يرضيها استرداد الحق بل الانتقام بأي ثمن من الخصم – ولو ظلما! كم كان يود أن لو اشتغل بالتعليم، لتكون براءة الطفولة الساذجة هي مادة عمله، وليساهم في بناء جيل صالح ينشأ على الأخلاق الفاضلة، تبدأ به مصر حياة جديدة. وهل هناك أنبل من وقفة المعلم أمام صف من الصبيان، يتطلعون بعيونهم المتعطشة إلى كل حركة تصدر منه وكل كلمة تخرج من فمه؟ هذا هو البناء الذي يرضي النفس. وأي مهنة أخرى تهيئ لصاحبها مثل هذه المتعة الروحية؟ أما الآن فإنه يجاهد في المحاماة جهادًا زائفًا مضيعًا. أحقًا أنه يعمل لرد الحقوق إلى أصحابها؟ إن صح هذا – وهو غير صحيح – فما فائدة تعمير البناء والأساس فاسد مختل؟ إنه يحس في نفسه القدرة على الصبر والتؤدة والتبسيط. وهذه صفات تؤخره في المحاماة، ولكنها خليقة بأن تدفع به إلى الصفوف الأولى لو أنه مارس التعليم.
قابلته آمال غاضبة تقول:
– لا أراك إلاّ والليل متقدم… وما أظنك غبت في هذا المكتب المبارك وهو أفرغ من فؤاد أم موسى… أكبر الظن أنك كنت مع صحبة السوء في لهو وعبث.
– كيف أرضيك يا آمال؟ ألاّ ترينني متعبًا؟
وضع حسين يده على قلبه وتنهد.
– إن الأزواج ليرجعون إلى البيت فيحدثون أزواجهم ويلاطفونهن ويتسلون معهن…
– وماذا تريدين؟
لوت خرطومها وتركته.
سار وراءها ذليلاً يقول:
– آمال! تعالي. تعالى نلعب الكونكان معًا، فأنا مهموم أريد أن أتسلى…
بلغ من ضعفه بين يديها أنه لا يجسر على أن يمن عليها بما يفعله لإرضائها، فكل خدمة منه لها يصورها خدمة منها له.
واستمر اللعب زمنًا، وتناول حسين ورقة يربح بها الدور، فرفع يده بها مسرورًا يقول:
– كُن…
ولكنه لم يستطع أن يتمها “كونكان”.
انشق الجدار وخرج إليه منه رجل غريب، ولكنه ليس بالغريب عنه. هو أقرب إلى القصر منه إلى الطول. مال بوجهه الزكي الرائحة على حسين يقول:
– ياسي حسين! هل أنت ذاكر؟ لقد نفذت عهدي من الاتفاق. أليس كذلك؟
ابتسم له حسين ابتسامة ملؤها الاطمئنان والود والإخاء وقال:
– تمم حديثك ولا تخف عني شيئًا. أكاد أفهم الآن كل ما كان غامضًا عليّ…
– نسيت أن أخبرك في ساعة اتفاقنا أنه لم يكن لك عندئذ من بقية العمر أكثر من تلك السنوات العشر التي تبرعت بها..
فهل أنت مستعد؟
أسبل حسين جفنيه، وخفق قلبه ومال عليه وجه سمح منزعج بقول:
– حسين! حسين! ما بك؟
– من أنت.
– أنا إحسان! ألا تعرفني؟ لقد كنت أمامي منذ لحظة سليما معافى. فماذا بك؟ هل يؤلمك شيء؟ رد عليّ! أأدعو الطبيب؟
ولكنه كان قد فارق الحياة، وعلى شفتيه ابتسامة خفيفة.
ووقفت أمامه إحسان ذاهلة لا تقوى على تفسير ما حدث كيف حدث!
ج.م