عمرو الزيات
لقينا أحد سماسرة الأدب – لا أبقاهم الله – بابتسامة تتبعها ضحكة كأنه ظفر بخاتم الملك، أو وقع على كنز أسفل بيته أو تحت سريره، قال: أين أنت أيها الحبيب؟! ولم يمنحنا فرصةً للرد على سؤاله العجيب، واستأنف قائلا: ما رأيك في شعر فلان؟! قلنا: لقد خطّ الشيب رأسه، وبدت عليه – مثلنا – آياتُ السنين وكرُّها؛ بيد أنه متصابٍ يحسب أنه دون العشرين أو نيّف عليها على أقصى تقديره؛ وإنه – أعنى فلانا هذا – ليظن وظنه إثم مبين أنه فتى الفتيان، قد خصّه الله دون خلقه بالعظمة والوجاهة والوسامة!
نظرنا إلى صاحبنا السمسار فرأيناه قد امْتُقِع وَجْهُه، وزالت ابتسامته السمجة؛ فظننا أن الله سيقبضه إليه، انتظرنا حتى يهبط إلى دنيانا ويعود لسيرته الأولى فَهْفَاها عييّا، عاد وفي عينيه حسرة، وبين جوانحه نار تلظى؛ إذ كان يظننا من أصدقائه هؤلاء الذين يحسبون كل حبة من بضاعة فلان هذا جوهرة، وأن حروفه سُكّرة، قال: أسألك عن شِعْره وليس عن شكله وصفاته، قلنا وهل قال شعرا؟! فبادرنا قائلا: لا تستخف بعقلي – قلنا هامسين: وهل لك عقل أيها الأحمق؟! – ولا تحقّر كلامي.
إنّ أمر البشر لعجيب وايم الله! يريد أن يحملنا هذا العلج الأعجمي على قول الباطل؛ لنرضي غروره وغرور سيده هذا، أراح الله منهما عباده الصالحين.
ظل في حيرته يريد جوابا شافيا في سيده، وربما أراد أن يعرف رأينا فيه وفي أمثاله من الأدعياء، وكنا ننظر إليه ونطرب لتلك الحيرة (وإنه لَيلذُّ لنا أن نكون نحن حربه وبلاءه، وأن نستطيع الإدالة للحق من الباطل في غرض من الأغراض، فإنها لذة نادرة في هذا العالم)
قلنا له: يا هذا، نمرّ بما يكتبه ثم يشطبه، ثم يكتب ويشطب، ويسمّيه شعرا تارة ونقدا أخرى وتجديدا تِيَرًا، ثم نشطب هذا الهراء كله جميعا؛ لأنه ضرب من الترديد، ونقل دون وعي عن بعض الجيف التي أخلدت للدعة وحقارة المطالب، كنّا نشطبه جميعه كما يفعل الرجل منّا حين يرى العانكب ناسجة بيتها في أحد الأركان التي لا تصل إليها الأيدي، فيقول لزوجه (زوجته) أو ابنته أزيلي هذا بالمكنسة، ثم يغفل عن أمر العناكب وبيتها، وهل ثمّ أهون من بيت العناكب؟!
بُهت السمسار نصير الأدعياء؛ بيد أن الله فتح عليه بهذا السؤال المعجز وتوهم أن نال من هذا الجبار الذي يخاطبه، فانطلق كأنه السهم قائلا: أليس فلان صديقي من الثائرين على الشعر التقليدي؟؟!!
بلى، إنه من الأذناب الأتباع الذين يميلون حيث مال غيرُهم، لا يمنع أحدهم أن يخلع عاريا في رائعة النهار وقارعة الطريق إلا اتقاء عوارض الجو، أما الحياء فلا ولا كرامة! يا هذا، هؤلاء ببغاوات تردد دون وعي لما يراد بهم؛ فالحداثة التي يتشدقون بها تعني الخروج والثورة على كل موروث وتحطيمه، ويظنون ذلك إبداعا، وثمة فروق معلومة بين الإبداع والفوضى؛ فالإبداع هو كسر جميع القيود التي تكبل الإنسان، وتحول دون انطلاقه في سماءات رحيبة مستكشفا عوالم جديدة، ومبتكرا كلَّ طارف؛ رغم تمسكه بكل تليد ، أما الفوضى فهي الخروج عن القواعد وهدمها، وليس بصحيح أن كلّ جديد صالح، والاتزان في الحياة ألزم وأجدى، للتقدم من طيش التعجل.
وتركته شاخص العينين، ومضيت في طريقي.