بهجت العبيدى يكتب ..الفن والجمال يرققان المشاعر والأحاسيس
إن تهذيب النفوس، والارتقاء بالمشاعر، لا يحدث هكذا بضربة عشوائية، ولا يأتي برمية من غير رامٍ، وليسا هما من رفاهيات الحياة، بل إن تهذيب النفوس والارتقاء بالمشاعر إنما هما من الأهداف السامية للشعوب الراقية، لأن لهما، فضلا عما يرتكانه في نفس الفرد من متعة روحية ولذة نفسية، دور في رقي المجتمع، ودور آخر في تقدمه، كما لهما دور عظيم في التمسك بالمثل العليا، وهو ما يعود على المجتمعات بالشيء العظيم.
من القناعات التي يؤمن بها الفلاسفة والمفكرون والمثقفون جميعا، أن هناك دورا بالغ الأهمية للفنون، فهي ترتقي بالحس، وتغذي المشاعر، وتشبع الروح، وتلبي حاجيات الوجدان، وكلما ارتقى الإنسان، كلما أدرك قيمة الفنون المختلفة، فاستحسن الراقي منها، واستنكر المبتذل فيها، وتجاوب مع الفن الجميل، ورفض الفن الهابط، فالفنون والإنسان في علاقة مضطردة.
كلما ارتقى الإنسان لم يرض من الفنون إلا الراقي منها، المخاطب للروح، والمهذِّب للمشاعر والعكس صحيح كذلك، فإن الإنسان الذي لم تصل نفسه إلى الرقي المنشود، يقبل الهابط من الفنون، ويجد صعوبة في التفاعل مع الفنون الراقية والمستوى الرفيع منها.
أتذكر تفسير أستاذنا الدكتور محمد عبد العزيز الموافي أستاذ الأدب الجاهلي الذي كان يأتينا من كلية دار العلوم بالقاهرة إلى كلية الآداب في جامعة المنصورة، أتذكر تفسيره لمقولة عملاق الأدب العربي – وكان ذلك في إحدى المحاضرات- “أعطني شعبا يحب الوردة أعطك شعبا متحضرا” حيث قال الأستاذ الدكتور محمد الموافي -بارك الله في عمره إن كان ما زال حيا، ورحمه الله برحمته واسعة إن كان قد فارق الدنيا- أن جملة العقاد عميقة المعنى عظيمة الدلالة، فلا يمكن لإنسان أن يحب الوردة حقا ألّا يتقزز من مشاهدة القمامة في الشارع، فضلا عن أن يسلك السلوك، ولا يمكن لشخص يحب الوردة إلا ويعشق الجمال ويبغض القبح، فيأتي بكل ما هو جميل ويبتعد عن كل ما هو قبيح! وهذا ما رأيناه بأم أعيننا في دول العالم المتحضر التي تعشق الفنون والزهور والجمال والفنون الراقية أينما وجدت ومن أي إنسان صدرت.
كنا -نحن المدققين في سلوك أبناء البلاد التي ستصبح وطنا ثان لنا- نتابع ظواهر المجتمع الجديد الذي نزحنا له، وكان يلفت انتباهي انا شخصيا ذلك العزف الموسيقي الذي يصدر عن آلات غربية مرة وشرقية وهندية أخرى ولاتينية ثالثة، والتي كانت أنغامها تملأ فضاء المدن النمساوية، خاصة يوم السبت أول يومي عطلة نهاية الأسبوع في أوربا. كان العازف -أو العازفون إن كانت فرقة مكونة من أكثر من فنان- يداعب آلته بأنامله، أو ينفخ زفيرا نابعا من القلب قبل الرئتين في آلات النفخ، لتسري نغمات موسيقاه تملأ فضاء جو البلاد الهادئ لتسري في الروح نسمات سحرية تطير بالمارة -الذين يفضل بعضهم الوقوف قليلا قريبا من العازفين- إلى عوالم الأثير.
وكان يضع العازف -إن كان مفردًا- أو الفرقة، قبعةً أمامه، فكان المارة المستحسنون لعزفه أو عزفهم يلقون ببعض العملات المعدنية، ونادرا الورقية، تشجيعا لهؤلاء الموسيقيين الذين يعرضون إبداعهم في الشوارع أو الميادين. كان المشهد جديدا عليّ -أنا ابن الريف المصري البعيد عن المدينة- في أن يعرض الفنان موهبته في الشوارع، ذلك الذي شاهدناه -بعد ذلك- على أرصفة وشواطئ المدن الأوربية المختلفة: المدينة الإيطالية العائمة فينيسيا، مثالا، حيث كانت الموهبة المعروضة هناك هي الرسم، الذي كان ينتشر مبدعوه في تلك المدينة، وكأني بكل دولة أو مدينة تزخر شوارعها بما اشتهرت تاريخيا به من فن، والذي يحصلون كذلك منه على بعض المال، “ليرة” كانت فيما سبق أو يورو بعد الانتظام في عقد الاتحاد الأوروبي، لم يكن ذلك نوعا من التسول بطريقة راقية، كما كان يردد بعض أبناء من دول عالمنا الثالث، ولكنه كان طريقة للموهوبين لعرض موهبتهم، فالموهوب أكثر الناس بُعْدًا عن الأنانية، ولذلك يسعى بكل طاقته في أن يقدم موهبته للناس، وتكون قمة سعادته، في نظرة معجب، أو كلمة ثناء، أو عبارة استحسان، ويكون آخر هدفٍ بالنسبة له هو الكسب المادي من هذه الموهبة، عن الموهوب حقا أتكلم. إن النمساويين والأوروبيين عموما يتفاعلون بقوة مع الراقي من الفنون ويعشقون الزهور، ويسلكون سلوكا مهذبا، ويحافظون على نظافة بلادهم لدرجة لافتة لأن مشاعرهم رُقِّقت وسلوكهم هُذِّب من خلال فنون راقية وعشقهم للورود والزهور بصدق، وهنا وجدنا مقولة المفكر العربي الكبير عباس محمود العقاد متحققة في وضوح لافت.
#الفن_والمشاعر