لماذا سكت المفكرون؟!
دكتور مدحت عبد الجواد
ترددت كثيرًا في الحديث عن تداخل الأجناس الأدبية؛ ذلك لأنني مصاب بداء الحذر المعرفي، وهو داء قديم حديث، خاصة فيما يتعلق بتداخل الأجناس الأدبية، حيث إن جميع التجارب السابقة التي خاضت هذا المضمار كان مصيرها التوقف وعدم الاستمرار أو قل إن شئت: الإخفاق، وأنا هنا لا أتحدث عن التناص فكثيرًا ما تختلط نظرية التناص مع نظرية الأجناس الأدبية ولكل منهما طبيعته الخاصة، وذلك لكثرة التشابك والتقاطع فيما بينهما، لكني أعني على وجه التحديد تلك المحاولات التي استهدفت الجمع بين جنسين أدبيين لكل منهما طبيعة مستقلة كتلك المحاولة التي قام بها توفيق الحكيم للجمع بين الرواية والمسرحية( المسراوية) في مسرحيته ( بنك القلق)، ومثل: ما قام به السيد حافظ في روايته( كل من عليها خان)، ومن وجهة نظري الخاصة أن هذه المحاولات تفتح الباب حديثًا- وخاصة في ظل الفيسبوك وغيره – للخلط بين السرد الإبداعي وغيره من العبث الذي يصادفنا على مواقع التواصل ويجعل الأمر مختلطًا على النقاد الجادين، إذ كيف يتعامل مع النص ؟ هل يعامله معاملة الشعر أم يعامله معاملة السرد أو القصص أو الرواية؟! ومعلوم أن لكل جنس نظرياته التي تحكمه وهنا يفتح الباب على نقد غير منهجي وغير منطقي ولا نستطيع أن نسميه إلا دربًا من العشوائية والتخبط أو هو لا يرقى حتى للنقد الانطباعي.
ويلاحظ التسابق على هذا أيضًا بين مدعى الموهبة وظهور نماذج تدعى الشعر وكأن مجلة الأدب ظهرت فجأة وفتحت الأبواب على مصاريعها، فظهرت أجناس جديدة، مثل: قصيدة المحمول أو القصيدة القصيرة جداً أو النصوص التفاعلية المفتوحة، حيث يختلط النثر الفني بغيره كالخاطرة بالتغريدة، وهذا مما جعلني أتوقف عن مسايرة هذا الزخم ودفعني لتجنب هذا المضمار.
فكل محدث في حقل الدراسات النقدية أو الأدبية يجد نفسه محاصرًا في بحر من الادعاءات التي ربما لا يملك دليلا للبرهنة عليها، فضلا عن طبيعة عالم النقد التي تتسم بالفرضيات والتجارب غير المستقرة فالتجارب الفكرية تتشكل وفق مؤثرات كثيرة، وهى ذات آفاق عديدة، وليس من الحكمة وضع ثوابت قطعية لها، فذلك يعرقل تواصلها ويقتل إبداعها، ولايصح الحديث المتسرع عن تجارب تنشد لنفسها تحديث فكري إنساني، وإن طبيعتي تقتضي التنقل بين تجارب إبداعية قديمة وأخرى حديثة، تشمل الفكر العربي والعالمي بكافة جوانبه الفلسفية والنقدية، وهذا ما يطور ملكة النقد ويكشف جمالياتها، ويستنطق الإبداع، ولقد انتهى بي الأمر إلى حقيقة تأثير المركزيات الثقافية في طبيعة الإبداع بحيث لا يستطيع المبدع الفكاك منها قط، فالتمركز حول الذات هو باعث قوي يجعل المبدع يفضل ذاته العرقية أو الدينية أو الثقافية ويرفع من شأنها على الآخر من خلال إبداعه.
كل هذا دفعني لمحاولات خط منهج نقدي يتفق مع طبيعة الأجناس الأدبية المتداخلة منطلقًا من محاولة الكشف عن أسبابها ودوافعها وهل نشأت لتلبية احتياج خاص لطبقة من طبقات المجتمع أو أنها محاولات للتجديد جاءت لتفرض نفسها على مجتمع لا يحتاج إليها فلديه ما يغنيه عنها؟! وهل هذا الجنس الأدبي سيقدم رسائل جديدة ؟! وقبل كل ذلك هل سيحقق المتعة الأدبية؟! وأين دوره في اللغة؟! والكثير الكثير من التساؤلات التي يجب أن نسألها لهذا الجنس الأدبي المتحول.
ودعني أتساءل معك: هل كان الإبداع الأدبي حرًا طليقًا في عصر من العصور؟ والحق يقال: أنه لم يكن يومًا بمعزل عن السلطة السياسية أو الدينية أو غيرها من قوانين المجتمع، فكم أقصت هذه القوى من نصوص إبداعية على مر التاريخ، وكتب الأدب مليئة بالقصص عن شاعر تم سجنه؛ لأنه تغنى بالخمر وآخر جاهر بالزنا فتم طرده، وغيرها من القصص التي تؤكد أن النفس الإنسانية المبدعة لم تكن حرة يومًا ما فتطلق لنفسها العنان، وكذلك النقاد لم يكونوا يومًا أحرارًا حرية مطلقة فيما يقولون، وكذلك المفكرين والعلماء، فدائمًا هناك سلطة من نوع ما تتحكم فيما يفصحون عنه وفيما يكتمونه، وهذا يجعل ما يخفونه أكثر قيمة مما يصرحون به، لكن الأمر الذي ليس به شك أن العلماء في الماضي وضعوا إشارات في كتبهم لا يفطن إليها إلا اللبيب المتمرس بكل فن، هو من يستطيع أن يقرأ ما خلف السطور، ويستطيع أن يفهم ما سكت عنه العلماء.
والسؤال الآن: ما علاقة ذلك بموضوعنا؟! أردت أن أخبرك أن غياب الحرية الفكرية، والحرية الإبداعية كانت دائمًا رغم أنها نقمة إلا أنها كانت نعمة، فأصبح للمبدع أدواته الخاصة التي يسلكها لتوصيل فكره في أي عصر وأي فن فاستخدم الرمز، واستخدم الصور البلاغية والتراكيب الإبداعية وعلى الصعيد الآخر قابله الناقد والمحلل والمفسر الذي شرح وقام بالتأويل واستنطاق النصوص؛ ليكشف أغوارها ويكشف أسرار الجمال وقد يقترب من عالم المبدع وقد يسبقه في عالمه وهذا يعود لمدى جهده وثقافته وحدود خياله.
وهنا أعود فأطلب ممن يضيقون الأمر على العلماء والمفكرين والنقاد، فاعلم أنهم صاروا في عالم أكثر قسوة ممن سبقوهم، فقد يدفعه ما لا طاقة له عليه أن يجامل أو يغير ما استقر في نفسه أو يصدر حكمًا على نص من النصوص بغير ما استقر في نفسه، ولست أحسب أن آلاف الكتب التي كتبت قدت من ذهب فكم من آلاف الكتب التي خرج علينا بها من نحسبهم علماء ونشير إليهم بالبنان وهى لا تساوى قيمة ما كتبت به ولا قيمة ما ضاع من وقت في مطالعتها! وكم من صفحات على مواقع التواصل بددت الأوقات ولم تقدم لنا الجديد! إننا نحيا في عالم متقارب متسارع عمن سبقونا ونلقى فيه من أهوال تشيب لها الرؤوس، يُقدم فيه ضعيف العقل ويغبن فيه حق العالم، ويتوارى العالم بعلمه ويخفي أكثر مما يبدي فلا هو يجد أرضًا خصبة صالحة يغرس فيها غرسه، ولا هو يجد من يقدر شأنه، وقد يبيت يومه لا يحصل ثمن العشاء في الوقت الذي ينعم فيه التافهون بالخيرات، ولهذا سكت العلماء؟!