قصة قصيرة من عيون الأدب الأمريكي بعنوان: الورقة الأخيرة للكاتب الأمريكي: أو هنري O Henry ترجمة الأديب الكبير: سهيل أيوب
يختل منظر الشوارع في أحد الأحياء الصغيرة القائمة غربي ميدان واشنطن؛ فيراها المرء أشبه بأشرطة صغيرة مؤلفة من زوايا وحنيات غريبة الشكل يطلقون عليها لقب (منازل)، يتهافت عليها أهل الفن يتصيدون الحجرات العالية بها. وهي هولندية الطراز منخفضة الأجور، فغدا الحي مستعمرة تعج بالفنانين والفنانات.
في قمة بيت من قرميد أحمر مؤلف من ثلاثة طوابق أقامت (سو) و(جونسي) مرسميهما.
تقابلتا مرة على منضدة (الصداقة العابرة) في أحد محلات الشارع رقم 8، وتبين لكل منهما أن ذوق الأخرى يتماشى وذوق رفيقتها، فكان مرسمهما المشترك وليد ذلك اللقاء.
حدث ذلك في شهر أيار. ولم يطل شهر تشرين الأول حتى هب البرد يختال في كبرياء متنقلا في أرجاء تلك المستعمرة، يمس خلال طوافه بها واحداً هنا وواحداً هناك بأصابعه الثلحية المتجلدة. وفي الجانب المقابل، على الضفة الشرقية، راح هذا القاتل يغذ السير في جرأة، فيهوي على ضحاياه بالعشرات، ولكنه شرع يباطىء من خطواته وهو يدب على الطرق الملتوية من تلك الشوارع الضيقة المغطاة بالطحالب. ولم يرأف البرد بأحد، فرمى شباكه، في آخر المطاف، فاصطاد (جونسي)، فلزمت فراشها لا تستطيع الإتيان بأية حركة حيت استلقت على هيكل سريرها الحديدي، تمد بصرها من خلال إطار النافذة إلى الفضاء البارد فتصافح عيناها بيتا من قرميد أحمر.
استدعى الطبيب الأشعت الشعر (سو) ذات، صباح إلى رواق الصالة وقال لها:
– إن فرصة صديقتك في الإبلال مما أصابها هي واحد من عشرة. وتكمن هذه الفرصة في تصميمها على الصمود في وجه الوت.
وسأل الطبيب (سو) عما إذا كان فكر صديقتها المريضة مشغولاً بأمر من الأمور، إذ أن ثمة ما يدل على أنها أقنعت نفسها أنها لن تسترد عافيتها.
أجابت (سو):
– بلى.. كانت تريد أن ترسم.. أن يتاح لها أن ترسم في يوم من الأيام خليج نابولي.
قال الطبيب:
– ترسم؟ هراء. أثمة شيء في عقلها جدير بأن تفكر فيه مرتين، رجل مثلا؟
أجابت (سو):
– رجل؟
وأردفت بعد قليل، وفي صوتها رنة ساخرة:
– وهل الرجل شيء جدير بالفكر؟.. لا شيء من هذا القبيل، يا دكتور.
فقال الطبيب:
– حسنا؛ هو المرض إذن . سأبذل قصارى ما أستطيع من العلم. أما إذا بدأت مريضتي تعد العربات التي ستسير في موكب جنازتها، فأنا أطرح خمسين في المئة من قدرة العلم والعقاقير على الشفاء. وإذا أتيح لك أن تجعليها تستفسر ولو مرة واحدة عن الموضة الجديدة لأكمام المعاطف الشتوية، فإني أعدك أن تكون فرصتها في الشفاء بنسبة خمسة لا واحد من عشرة.
وذهب الطبيب، فدخلت (سو) حجرة العمل وأطلقت صيحة غريبة، ثم خَطَت في صلف وكبرياء داخل حجرة (جونسي) تحمل لوحة الرسم الخاصة بها، وهي تصفّر لحن أغنية زنــجـ.ـية. كانت (جونسي) راقدة في فراشها ساكنة الأطراف، وقد أدارت وجهها إلى النافذة، فتوقفت (سو) عن الصفير حاسبة أن صديقتها تغط في النوم. أعدّت (سو) لوحتها، وبدأت ترسم بالريشة والحبر رسماً لإحدى الأقاصيص في إحدى المجلات، إذ لا بد للفنانين الناشئين من أن يُعبّدوا طريقهم إلى محراب الفن برسوم أقاصيص المجلات أولا، هذه الأقاصيص التي يكتبها مؤلفون ناشئون لتعبيد طريقهم إلى دنيا الأدب.
وبينا (سو) ترسم رسما تخطيطياً يمثل بنطالاً لركوب الخيل من تلك السراويل التي يرتديها الفرسان في الإستعراضات الأنيقة، وصل إلى سمعها صوت خفيض يتكرر مرات متوالية، فهرولت إلى جانب فراش صديقتها المريضة. كانت عينا (جونسي) مفتوحتين، وقد اتسعت حدقاتهما وهي تنظر إلى خارج النافذة، وتعد الأرقام بشكل عكسي.
سمعتها (سو) تقول بعد قليل:
– اثنتا عشرة، إحدى عشرة، عشر، تسع..
وتطلعت (سو) من النافذة والقلق ينهش أفكارها. ترى ماذا تعد صديقها؟ ولم يكن بصرها يقع إلا على فناء عابس، ثم زاوية مبنى من
القرميد الأحمر يبعد عشرين قدما تضربه الريح بأنفاسها. وكان ثمة شجرة لبلاب عتيقة تعقدت جذورها وبليت تتسلق جدار البيت إلى منتصفه. وكان نسيم الخريف البارد قد أطاح أوراقها فالتصقت أعواد هيكلها شبه العارية بالقرميد الأحمر المتداعي.
قالت (سو):
– ماذا أصابك، يا عزيزتي؟
فنبرت (جونسي) في شبه همسة:
– ست
واستطردت قائلة:
– إنها تسقط الآن بسرعة. كان هنالك مئة منها منذ ثلاثة أيام. وأقلق بالي عدها فأصبت بالدوار ولكن الأمر أسهل الآن.. لقد ذهبت واحدة، ولم يبق غير خمس فقط.
قالت (سو):
– خمس ماذا، يا عزيزتي؟
– خمس أوراق على كرمة اللبلاب. وما أن تسقط الورقة الأخيرة حتى أسقط أنا أيضا. لقد عرفت ذلك منذ ثلاثة أيام. ألم يخبرك الطيب؟
– أوه! أنا لم أسمع بهذا الهراء من قبل قط. ما علاقة اوراق اللبلاب البالية بموضوع صحتك! لا تكوني غبية، أيتها الفتاة الشقية.
-لماذا؟ لقد أخبرني الطبيب هذا الصباح أن فرصتك في الشفاء أسرع وقت كاف كانت.. فلنستوعب بالضبط ماذا قال.. لقد قال إن فرصتك كانت بنسبة عشرة إلى واحد. كيف؟ هذه فرصة عظيمة، حاولي أن تتناولي شيئا من الحساء، واسمحي لصديقتك (سو) أن تعود إلى رسمها كيما تستطيع أن تبيع للصحيفة إنتاجها وتشتري لصديقتها المريضة نبيذا وقطعا من اللحم تملأ بها معدتها الشرهة.
قالت (جونسي)، وقد ثبتت عينيها خارج النافذة:
– لست في حاجة إلى نبيذ. بعد قليل تسقط ورقة أخرى.. أنا لا أريد حساء.. عندما تسقط هذه الورقة لن يبقى غير أربع ورقات. وأريد أن أرى الورقة الأخيرة قبل أن يتراخى الظلام، وحينذاك أهوي أنا الأخرى.
قالت (سو) ، وهي تنحني فوقها:
– (جونسي) عزيزتي؛ عديني أن تغلقي عينيك، وألا تنظري خارج النافذة، حتى أنتهي من عملي. ينبغي أن أسلم هذه الرسوم اليوم، وأنا في حاجة إلى الضوء، وإلا أسدلت الستارة.
سألت (جونسي) في برود:
– ألا تستطيعين الرسم في الحجرة الأخرى؟
– أفضّل أن أكون هنا إلى جانبك. وأريدك أن تكفي عن النظر إلى أوراق اللبلاب البلهاء.
قالت (جونسي)، وقد إغلقت عينيها، ورقدت بيضاء ساكنة مثل تمثال من حجر:
– أريد أن أرى الورقة الأخيرة تسقط حين تنتهين من عملك. لقد أتعبني الانتظار، وهد قواي التفكير، وأريد أن أرفع يدي عن كل شيء، وأمضي
راحلة، راحلة، مثل واحدة من تلك الأوراق البائسة.
قالت (سو):
– حاولي أن تنامي، يجب أن أحضر النموذج الذي أرسم على شاكلته صورة الناسك العجوز. لن أغيب أكثر من دفيقة واحدة، لا تتحركي حتى أعود.
كان النموذج هو الرجل العجوز الذي يعيش في الطابق الأرضي تحتهما؛ وهو شيخ تخطى الستين من عمره، لحيته أشبه بلحية موسى التي تخيلها النحات الشهير ميكيل آنجلو، تتهاوى في لفائف بيضاء من رأسه على جسمه النحيل، وكان فاشلاً في الفن، فقد بقي يعمل بالفرشاة أربعين عاماً دون أن يقترب بصورة يستطيع معها أن يمس طرف رداء سيدته – الفن.
لقد كان دائماً على وشك أن يرسم لوحة ممتازة، ولكنه لم يبدأ هذه اللوحة أبداً. إنه لم يرسم طوال السنوات الماضية أكثر مما يلطخ به طريقه في دنيا التجارة والإعلان. وكان يكسب قليلاً عن طريق عمله كنموذج للفنانين الناشئين، أقصد أولئك الذين لا يستطيعون دفع أجر نموذج محترف.
وكان صاحبنا يشرب الخمر ويسرف في معاقرتها، ولا يكف عن الحديت عن طرفته الرائعة القادمة. أما ما بقي من أمره فقد كان رجلاً صغيراً شرساً يسخر من الرقة في أي شخص، ويعتبر نفسه حارساً خاصاً على الفنانتين الصغيرتين الناشئتين القاطنتين في الطابق العلوي٠
وجدت (سو) أن الرجل يفوح برائحة حبات نبات العرعر بشكل شديد ظاهر، وقد قبع في عرينه السفلي الذي يضيئه نور خافت. ووقعت عينها في أحد أركان الغرفة على لوحة لم يرسم عليها الفنان العجوز شيئاً بعد، فهو قد بسطها على منصة الرسم ينتظر، منذ خمسة وعشرين عاماً؛ أن يضرب عليها الخط الأول، أو اللمسة الأولى من الطرفة المختارة التي لم تر النور بعد.
وروت (سو) للفنان العجوز ما يجول في خاطر صديقتها وخشيتها من أن (تذهب) الفتاة الصغيرة، الخفيفة الرقيقة النحيفة كورقة اللبلاب، فترحل عن الوجود بعد أن يزداد ضعف سيطرتها الضئيلة على هذه الدنيا.
صاح الفنان العجوز، وعيناه المحمرتان تقطران دمعاً، معبراً عن احتقاره وازدرائه بمثل تلك الأوهام البلهاء:
– عجيب! هل الناس في هذا العالم على هذا الغباء المبين! يموتون لأن الأوراق تسّاقط عن شجرة بلهاء؟ أنا لم أسمع بمثل هذا من قبل.. لا، أنا لن أجلس نموذجا لناسك أحمق.
كيف تجيزين لمثل هذه الحماقة أن تتسرب إلى عقل تلك الفتاة البائسة؟
قالت (سو):
– إنها مريضة جدا وضعيفة جدا. وقد أسقمت الحمى عقلها وملأته خيالات غريبة، حسنا! إذا لم تكن تريد أن تكون نموذجاً لرسمي فلن أصر عليك. ولكني أحسبك رجلاً أحمق.
فصاح الرجل :
– أنتِ مجرد امرأة وحسب! من أنبأكِ أني لن أجلس كنموذج أمامك؟ هيا سآتي معك، فقد كنت أحاول طوال نصف ساعة أن أعلن عن استعدادي للجلوس أمامك، هل أدركتِ ذلك؟
وتابع بعد برهة:
– ليس هذا مكاناً تجلس فيه مريضة شابة طيبة کالآنسة (جونسي)، سوف أرسم ذات يوم لوحة رائعة أبيعها بثمن باهظ يحقق لي ثروة طائلة، ثم نرحل جميعاً عن هذا المكان.
كانت (جونسي) نائمة عندما صعدت (سو) ونموذجها إلى الطابق العلوي.
جذبت (سو) الستارة إلى أسفل إطار النافذة، ودفعت الرجل إلى الحجرة الأخرى. وهناك راحا يطلان في خوف على كرمة اللبلاب خارج النافذة. وأخذ كل منهما ينظر إلى الآخر لحظة في صمت شامل.. كان ثمة مطر ملحاح يسّاقط مختلطاً بالجليد، واتخذ الرجل مقعده في هيئة الناسك في قميصه الأزرق، على إناء مقلوب يمثل صخرة.
عندما استيقظت (سو) في الصباح التالي بعد نوم لم يستغرق أكثر من ساعة واحدة وجدت صديقتها (جونسي) تحملق في عينين اتسعت حدقاتهما الباردتان في الستار الأخضر المنسدل. أمرت (جونسي) في همسة رقيقة:
– ارفعي الستار. أريد أن ألقي نظرة.
وأطاعت (سو) الأمر في وهن.
كانت ورقة لبلاب واحدة لا تبرح معلقة على الجدار الأحمر بعد أن كف المطر عن التهطال، وخمدت نفثات الربح العاتية التي ظلت تدوي طوال الليل. كانت الورقة الأخيرة في الكرمة، فهي لا تزال خضراء داكنة على عودها، يخضب أطرافها المشرشرة اصفرار التحلل. كانت هذه الورقة تتدلى في شجاعة من فرع يعلو عن الأرض قرابة عشرين قدماً.
قالت (جونسي):
– إنها الورقة الأخيرة. ظننت أنها ستسقط خلال الليل، لقد سمعت عصف الرياح الهوجاء. سوف تسقط اليوم، وسوف أرحل عن هذه الدنيا في الوقت ذاته.
فقالت (سو) :
– یا عزیزتي، یا عزیزتي.
وأمالت وجهها الذاهل النحيل إلى أسفل، إلى الوسادة، وأردفت:
-فكري في صديقتك إذا كنتِ لا تريدين التفكير في نفسك. ماذا أفعل إذن؟
فما أعطتها (جونسي) جوابا. إن أكثر الأشياء وحدة في هذا العالم هو روح تتهيأ للانطلاق في رحلتها البعيدة الغامضة.
مضى اليوم بطيء الخطو، ولكنهما كانتا تستطيعان رؤية ورقة اللبلاب الوحيدة تلتصق إلى عودها في الجدار. وهب البرد مع حلول الليل يطلق عقال الشمال، وجعلت حبات المطر تطرق زجاج النوافذ وتتدحرج على أطناف سقف البيت. وما أن أطل الصباح وانتشر الضياء حتى أمرت (جونسي) أن تُرفع الستارة.
كانت ورقة اللبلاب في مكانها.
رقدت (جونسي) وقتاً طويلاً تنظر إليها، ثم نادت صديقتها (سو) التي كانت تقلّب حساء الدجاج فوق فرن موقد الغاز.
قالت (جونسي):
– لقد كنتُ فتاة سيئة، يا (سو).. فقد دعا شيء ما تلك الورقة الأخيرة أن تظل في مكانها لتكشف لي عن مقدار ما أنا عليه من شر. إنها لخطيئة أن يريد المرء أن يموت! تستطيعين أن تحضري لي قليلاً من الحساء الآن مع قليل من اللبن.. لا، بل أحضري لي مرآة يد أولاً، ثم ضعي الوسائد من حولي كيما أستطيع أن أعتدل في جلستي فأراقبكِ وأنت تعملين. وأضافت بعد ساعة من الزمن:
– إني آمل، یا (سو) ، أن ارسم خلیج نابولي ذات يوم.
جاء الطبيب في العشية، وحين ترك غرفة المريضة هرولت (سو) خلفه في رواق الصالة.
قال الطبيب، وهو يأخذ بيد (سو) الرقيقة المرتعشة في يده:
– إنها فرص متكافئة.. بالتمريض الطيب ستكسبين..
وأردف بعد قليل:
-والآن، لا بد لي من رؤية حالة أخرى في الطابق السفلي. إن الفنان العجوز (برمان). أليس هذا اسمه؟.. إن هذا الرجل ضعيف عجوز، ومرضه خطير. ليس من أمل في إنقاذه.. سنحمله اليوم إلى المستشفى ليلقى قدراً أكبر من العناية. فهو مصاب بنوبة برد رهيبة.
في اليوم التالي قال الطبيب للصديقة (سو):
– لقد زال الخطر نهائياً.. أجل، لقد شفيت. الغذاء الطيب والعناية هما كل ما هي في حاجة إليه الآن.
في عصر اليوم ذاته، جاءت (سو) إلى الغرفة التي ترقد فيها (جونسي) تعمل في هناءة بال في نسج شال وغطاء من الصوف وضعت حول ذراع المريضة الوسائد، وقالت:
– لدي شيء أقوله لك، أيتها الفأرة الصغيرة. لقد توفي اليوم في المستشفى السيد (برمان) إثر إصابته بنزلة رئوية. لقد مرض يومين لا غير. وجده البواب في صباح اليوم الأول في غرفته في الطابق الأرضي وحيداً لا يلقى أية رعاية والألم يعذبه، وكان حذاؤه وملابسه مبتلة كلها، وكانت أطرافه باردة كالثلج. لم يكن أحد يتصور أنه أمضى ليلة مروعة كهذه. وقد وجدوا قربه مصباحاً مضاء وسُلّماً جُرّ من مكانه وأدوات للرسم كما وجدوا حوض ألوان اختلط عليه اللونان الأخضر والأصفر. انظري خارج النافذة، یا عزیزتي انظري إلى ورقة اللبلاب الأخيرة على الجدار، أوَ لم تَعجبي كيف أنها لم تهتز ولم تتحرك عندما هبت الريح؟ آه، یا حبیبتي.. إنها طرفة الفنان العجوز الرائعة.. لقد رسمها هنالك، على الجدار، ليلة سقطت الورقة الاخيرة.
ج.م