الإنسان… صناعة
لعلنا جميعا نتساءل عن الفروق الجوهرية التي نشاهدها، دون كثير عناء، بين الأمم بعضها البعض، فنجد مثلا، في الظروف التي يمر بها العالم، شعبا وقد التزم بكل التعليمات التي تصدر له من حكومته للحد من انتشار ڤيروس كورونا، وفي المقابل نجد شعبا آخر، وقد “عمل أذنا من طين وأخرى من عجين”، ونجد شعبا ثالثا وقد ألزم نفسه باحترازات أكثر شدة مما قد ألقت على مسامعه من حكومته، ونجد في المقابل شعبا يسعى في التحايل كل التحايل لكي يكسر تلك التعليمات التي أصدرتها حكومته.
إن كل هذا راجع لسبب وحيد، هو كيف تم صناعة الشخصية، في كل شعب من هذه السعوب، هذه الشخصية التي لابد في بادئ الأمر أن يُتَّفَق عليها، بمعنى أكثر وضوحا يجب أن يسأل كل شعب نفسه: أي شخصية نريد أن نتحصل عليها؟، فهذه صناعة يتم العمل عليها، للحصول على المنتج الذي يتم تحديده مسبقا.
إن صناعة هذه الشخصية والحصول على المنتج المرجو، تعمل عليه كافة مؤسسات الدولة، الذي تبدأ بالتعليم ولا تنتهي به، فهو العمود الفقري لهذه الصناعة، ولكن إن لم تشترك معه كافة المؤسسات الأخرى، فإنه جهد ضائع، في تحقيق هدف هو والسراب سواء بسواء.
إذا أرادت أمة أن تنهض أو تبدل من حالة رثة لها إلى حال أفضل، لابد أن تبدأ بالتعليم، الذي هو ليس مجرد استظهار لمعلومات، يقوم أحد المُحفِّظين بتلقينها لأطفال، أو تلاميذ أو طلاب جامعيين.
إن التعليم مهمة شاقة، وعملا ممنهجا، يلزمه توافر العديد من العناصر، ولأهميته توقف عنده كل الفلاسفة، وأغلب المثقفين، ولقد أتى له الشاعر الإنجليزي الشهير ” جون مليتون”، الذي مارس، في دوره الإصلاحي، مهنة التعليم، نقول أتى ” مليتون ” للتعليم بتعريف قوي رائع : “أقول أن التعليم التام الواسع هو الذي يعد الإنسان لينهض، بحق ومهارة ورحابة صدر، بكل مهامه الخاصة والعامة في السلم والحرب، سواء بسواء” وأول واجب على المعلم، والكلام مازال للشاعر الإنجليزي الكبير، هو أن يغرس الخلق القويم في نفس التلميذ، وأن يعيد تكييف الخلق القومي تبعا لمتطلبات حياة المدنية حاليا.
كان هذا هو تعريف أحد نوابغ القرن السابع عشر بإنجلترا.
وفي عام 1938 تعرض عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين لعملية التعليم في مصر في كتابه الهام مستقبل الثقافة في مصر، وعرض المشكلات والتي كان من بينها ضغط الرأي العام على الحكومات المختلفة، التي ترضخ لأولياء الأمور الذين يريدون نجاح أبنائهم من ناحية، كما تخضع لتلك الزيادة التي يمثلها أطفال جدد يصلون لسن التعليم، من ناحية أخرى، فعلى الدولة أن توفر لهم أماكن الدراسة، ومن ثَمَّ تضطر الحكومة لنقل التلاميذ مهما كان مستواهم للصف التالي لإتاحة الأماكن للوافدين الجدد.
ورأى العميد طه حسين نفس ما رأى الشاعر الإنجليزي ” جون مليتون ” في أنه لا نهضة لأمةٍ إلا من خلال التعليم.
إذًا هذا أمر يتفق فيه الجميع، وهو ما شاهدناه بأم أعيننا في الدول التي يطلق عليها متحضرة مرة ومتطورة أخرى ومتقدمة ثالثة، تلك الدول التي نزح إليها بعضٌ من المصريين الذين كنت أحدهم لأشهد ما طالب به كل من مليتون وطه حسين بطريقة عملية في دولة النمسا، التي تُولِي التعليم والمعلم والتلاميذ والعملية التعليمية بكل تفاصيلها العناية الأَوْلَى في كل مجالات الحياة التي هي الأخرى لها عناية فائقة، كما وجدنا فيها كل ما نادى به عميد الأدب العربي في كتابه مستقبل الثقافة في مصر، بكل تفاصيله، من أهمية دراسة اللغة اللاتينية القديمة، على سبيل المثال، حيث لا تواصل مع الحضارات القديمة التي لا غنى عن دراستها إلا من خلال لغتها، وكان الدكتور طه حسين قد طالب بأن يدرس طلاب المدارس الثانوية قدرا كبيرا من الثقافة تؤهلهم لأن يقتحموا الحياة اقتحاما وهم مُسلَّحون بعلم كافٍ، وهو نفس ما وجدناه يمشي على قدمين في الدول المتقدمة ومنها النمسا التي أقيم بها منذ ربع قرن والتي أعمل فيها مدرسا للغة العربية لغير الناطقين بها، وهنا أدركنا كيف كان العميد سابقا لعصره، حينما سطر هذا الكتاب من ثمانين عام تقريبا.
والسؤال الذي نطرحه هنا، هل تستطيع الحكومات العربية الحالية، وتعلن أنها قررت النهوض بهذا الوطن الذي يستحق أن يكون في قلب الأمم المتحضرة، والدول المتقدمة، وأن تعلن التعليم مشروعا قوميا، حقيقية لا مجرد شعار، وهذا بكل تأكيد لن يحدث إلا أن تكون هذه ” الحكومات” مؤمنة حقا بأنه لا سبيل لنهضة ذلك البلد العريق إلا من خلال التعليم.
فكل الأمم التي أرادت النهضة لجأت إليه، وكل الشعوب التي تاقت للتطور بدأت بالتعليم، وكل الحضارات التي نشدت العودة لازدهارها عملت على تطويره وعلى احترامه، فالتعليم ثم التعليم ثم التعليم هو البداية الصحيحة لأية أمة تسعى لتضع نفسها بين دول العالم المتحضر، أو تصنع لنفسها مكانة في عالم لا يعترف إلا بالقوى، ولا يحترم إلا المتطورين.
بالنظر إلى حالنا في العالم العربي عموما ومصر على وجه خاص نلحظ دون عناء حالة مزرية في عديد القطاعات: الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والدينية والثقافية، ونجد مستوىً متدنيًا في مختلف المجالات، ولو أردنا أن نعلم السبب وراء كل ذلك لن نتعب كثيرا في البحث، لأن السبب يكاد يعلن عن نفسه بلسان فصيح وهو رداءة المنتج التعليمي، الناتج عن رداءة العملية التعليمية، التي لها عديد المكونات يأتي على رأسها، وليس آخرها، القائم على تربية النشء والقائم على إعداد الشباب ” الطلاب ” لسوق العمل من ناحية ولمجتمعه من ناحية أخرى.
إنه لا مفر – إن أردناها نهضة حقيقة – من إعداد المعلم إعدادا مناسبا، ومن الاهتمام به ليصبح في رأس هرم السلم الاجتماعي، ليشعر بالفخر باهتمام أمته به، ويعطي عن حب ورغبة في أن يصبح المنتج الذي يقوم عليه منتجا رائعا، ينهض بالأمة فيفخر به.
تلك هي العملية الأولى في عمليات صناعة الإنسان، تلك العملية التي يجب أن تتضافر وتتشابك معها عمليات عديدة، سنأتي عليها في مقالات أخرى، فإن كان التعليم هو قاطرة هذه الصناعة، فالقطاع الديني، والقطاع الثقافي، والقطاع الإعلامي، والاجتماعي.
https://www.google.com/url?sa=t&source=web&rct=j&url=https://m.youtube.com/watch%3Fv%3DzMaxoup_2AI&ved=2ahUKEwjnhP-a4Kv5AhVLmYsKHfBSCyg4ChCjtAF6BAgKEAQ&usg=AOvVaw3JZZ1ikFSi1agYUIDX7DQz
بهجت العبيدي
كاتب ومفكر مصري مقيم بالنمسا